الأربعاء 2021/07/28

آخر تحديث: 07:53 (بيروت)

تونس في مأساتها وملهاتها

الأربعاء 2021/07/28
تونس في مأساتها وملهاتها
المحتجون على قرارات الرئيس التونسي أمام البرلمان المقفل (غيتي)
increase حجم الخط decrease

البطل في التراجيديا مصاب بالعمى، يتقدم بثبات نحو حتفه، بثبات وشجاعة أيضاً. العمى لديه ليس مكمن الهشاشة، بل هو جوهر بطوليته، يصارع متخطياً الأهوال ومتغلباً عليها، حتى يصل إلى هلاكه الأكيد. وتفرض الحبكة دائماً سقطة واحدة ومريعة، كخطيئة أولى تتبعها سلسلة من الأحداث، لقدرٍ هادرٍ يصوب وجهه نحو حافة الكارثة. المأساة ليست فخاً، بل مساراً مرسوماً. لكن البطل لا يرى ما ينتظره تحت قدميه، شخوص المسرحية من حوله يعرفون، هم في معظمهم أو جميعهم، جزء من المؤامرة أو الخيانة أو متعاطفون معه، لكن في موقع العجز. مبكراً ينكشف للجمهور كل شيء، هول المأساة في هذا تحديداً، لا في المفاجأة ولا في ضربات المصير العشوائية، بل في قسوة توقعها، كونها مكشوفة ومتبجحة ولا يمكن منعها مع هذا، في أنها معروفة بتفاصيلها للجميع، ماعدا البطل.

لماذا يقع "إخوان" تونس في أخطاء "إخوان" مصر نفسها؟ ولماذا يسلك خصوم هؤلاء الطريق ذاته الذي سلكه غيرهم؟ لماذا لا يرى الأصدقاء في تونس ما نراه… نحن الجمهور، الجالسين بعيداً وفي الصفوف الأخيرة، لماذا لا يصدقوننا؟

أبطال الأساطير ليسوا بالحمقى، لكن شائبة واحدة تكون نقطة ضعفهم المفضية إلى الدمار، حسن النية أو الطيش أو غريزة الانتقام، وفي أحيان كثيرة الخيلاء. فهم، على الأغلب، من أنصاف الآلهة وأنصاف البشر. تخلق المجتمعات أساطيرها، حتى المعاصر منها يصنع بعضها ويؤمن بها بإخلاص، أساطير مؤسَّسة على بعض الحقيقة وبعض الأحداث العارضة، بعد أن تُضفى عليها صبغة المطلق.

تونس هي الاستثناء. الجيش التونسي لم ولن يكون أبداً جزءاً من اللعبة السياسية، وكأن الماضي ضمان للمستقبل، الشعب واعٍ، ولا يمكن أن يرضى أبداً بعودة الاستبداد مع مَن لا يعرف من هو الشعب: الذي صوت "للنهضة" في الانتخابات؟ أم الذي يحتفل في الشوارع اليوم؟ تلك المناعة المتخيلة والإيمان بجواهر ثابتة للأشياء، ربما هي ما يحجب الرؤية.

"إن التاريخ يعيد نفسه مرتين، مرة على شكل مأساة، ومرة على شكل مهزلة"، عبارة ماركس الشهيرة تتكلم عن المسرح اليوناني بقدر ما تتكلم عن التاريخ. العلاقة بين التراجيديا والملهاة ليست علاقة بين التكرار الأول والثاني، بل بين نوعين متمايزين من التكرار. أحدهما تنبع مأسويته من قابلية توقعه، كونه معروفاً سلفاً بشكل مؤلم، كما في التراجيديا. أما الآخر، فعلى النقيض، تكمن هزليته، في إنه غير قابل للتصديق، في أنه تشابه مستحيل، في أن مصر ليست تونس، وأن تونس ليست مصر، كما أن المرء لا ينزل إلى النهر مرتين، وأن قيس سعيد ليس جنرالاً عسكرياً مثل السيسي، ومع هذا يبدو كل شيء مكرراً. البطل الكوميدي ليس أحمق أيضاً، الهزل لا يكمن في الفشل مع كل محاولة جديدة للتكرار، بل في الإصرار على المحاولة، بشكل آلي، وبهذا العناد شبه البطولي والهزلي في الوقت نفسه.

لكن، من حسن الحظ أن التاريخ ليس مسرحاً، فالعالم خليط من الإثنين: أي المأساة والملهاة معاً، ومن تكرار هذا وذاك. وحين يتعلق الأمر بالثورة، فإن ماركس نفسه يحض على نوع من ضرورة التكرار أو التكرار الضرورة، ذلك التكرار الذي يبدو مع هذا مستحيلاً، أو معجزة.

تضع التطورات الأخيرة، تونس، على حافة المجهول، التعليق المؤقت للبرلمان لا يأتي مقروناً بخطة طريق واضحة ولا حتى تقريبية لما سيحدث خلال الأيام الثلاثين المقبلة، ولا ما عليه أن يحدث بعدها. الحماسة الواسعة في الأوساط العلمانية لقرارات الرئيس، تبدو مقلقة، أكثر من تركيز السلطات في يده. التصعيد من قبل حزب "النهضة" ومؤيديه وارد، وعواقبه فادحة. أما انطلاق حملة قمعية ضده بغرض استئصاله، فأمر وراد بالقدر عينه، وعواقبه لا تقل كارثية على الجميع. يمكن التعويل بالطبع على وساطة "اتحاد الشغل" والأحزاب الأخرى، وربما أطراف خارجية، وعلى ضغوط الشارع وحسن النوايا، من أجل الوصول إلى تسوية من نوع ما. تعويل يوحي لنا بأن التكرار، كما أنه نوع اليأس، هو أيضاً وجه للأمل.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها