السبت 2024/05/04

آخر تحديث: 11:19 (بيروت)

غزة وغَسلها ثقافياً

السبت 2024/05/04
غزة وغَسلها ثقافياً
"الملثم" للفنان اللبناني أيمن بعلبكي
increase حجم الخط decrease
لطالما استدعى التدليل على الشرط السياسي للثقافة، قسطاً وافراً من التحليل والنبش والكثير من التدليل اللجوج. والسبب في مشقة كشف ما هو أقرب إلى البديهي- كون عالمنا مغموراً بكامله في السياسي- هو أن نزع السياسة عن الثقافة يحقق مصلحة مزدوجة. أولاً، يتيح للعاملين في الحقل الثقافي بَراحاً من الحرية في التعبير والإبداع والتجريب، وكذا ممارسة اللعبي والشبقي، من دون حاجة للرجوع إلى محك المنفعة المقرون بالسياسي.

وفي هذا السياق، جاء الاندفاع، منذ النصف الثاني من القرن العشرين، نحو مبادئ الذاتية والباطنية والتجريدية والشكلانية، على خلفية قمع طويل تعرضت له المجالات الثقافية باسم دوغما الالتزام في عهد الحرب الباردة، وعلى وقع تنويع من رَقابات شتى في بلادنا، منها الأهلي المحافظ باسم الدين والتقاليد، ومنها الدولَتي المشغول بأيديولوجيا الحكم ومطلقات مثل الأصالة والعروبة ومقارعة الاستعمار. أما المصلحة الأخرى، فتصب بشكل عكسي في صالح المؤسسة السياسية ، فكلما تدرجنا صعوداً على مقياس نزع السياسة عن الثقافة، أصبحت مفاعيل السياسة في الثقافة وبها أعمق تأثيراً وأكثر نعومة ومخاتلة، وبالتالي أصعب على الكشف وأخفض صوتاً فلا تستفز المقاومات.

هكذا، فإن نزع السياسة، أو بالأحرى إنكارها، صار الأساس التعاقدي بين أطراف المقايضة السياسية-الثقافية، بحيث يربح الطرفان، ولا يكون ربح أحدهما اقتطاعاً من رصيد القيمة المضافة للآخر، بل على العكس. فكلما صارت الثقافة أقل سياسة، صارت أكثر تسييساً. 

لكن، خلال الشهور السبعة الماضية، ومنذ السابع من أكتوبر، انهارت فجأة بنود التعاقد الثقافي على نطاق واسع، ونقضت شروطها الأساسية علناً وبأشد الصور فجاجة، إلى حد أن بعض التمويلات الثقافية الغربية أضحى مقروناً بتوقيع إشهارات ولاء سياسي، أقرب إلى إقرارات الانصياع لخطوط السياسة الرسمية تجاه الحرب في غزة. وشمل ذلك التغول السياسي على الثقافي، طرفي ثنائية الشكل والمضمون، بحيث صار تضمين "شكل" الكوفية في لوحة، كافياً لحظر كل أعمال الفنان من دار للمزادات. والحال أن الأمر تجاوز الرقابة البيروقراطية على الثقافي، إلى حد إدارتها بوليسياً. ففي واحد من الوقائع غير النادرة مؤخراً، تدخلت شرطة مدينة لندن لإلغاء حفلة توقيع لكاتب أميركي يهودي، هو ناثان ثرال، كون كتابه "يوم في حياة عابد سلامة" يدور حول أوضاع مدينة القدس تحت سلطة الاحتلال وسياسات الفصل العنصري. وترتبت على هذا كله، سلسلة من التحركات الفردية والجماعية تضمنت مقاطعات واحتجاجات وانسحابات وبيانات إدانة، من قبل آلاف العاملين الثقافيين على نطاق كوكبي، من جنوب إفريقيا والهند إلى الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، ولعل أبرز أمثلتها حركة "قاطعوا ألمانيا". 

اللافت للانتباه هو أن الدوائر الثقافية في المنطقة العربية هي الأقل تمثيلاً في ذلك الحراك الاحتجاجي، فبالكاد يمكننا رصد أي أفعال مقاطعة تجاه المؤسسات والدول المؤيدة لجرائم الحرب في غزة، باستثناء مواقف فردية، يمكن عدها على أصابع اليد الواحدة. ولعل أبرزها تنازل الفنان المصري محمد عبلة، عن وسام غوته الألماني. أما في ما يخص الفعاليات الثقافية في المنطقة العربية، ومن ضمنها التي نظمتها دول عربية متورطة في دعم إسرائيل بشكل مباشر أو ضمناً، فلم تشهد أي منها ولو حالة واحدة من المقاطعة أو الانسحابات، وفي أفضل الأحوال تم تضمين الموضوع الفلسطيني في البرنامج الثقافي، أو بشكل طقسي حيث ارتدى المشاركون الكوفية الفلسطينية في بعض المناسبات الثقافية وخلعوها في البعض الآخر، اعتماداً على التموضع السياسي للدولة المضيفة. 

الواقع أن تعاقد المقايضة السياسية-الثقافية في دول التمويل الثقافي العربية، ظل قائماً في ما يخص غزة، بحيث لم تفرض شروط سياسية علنية على الحقول الإبداعية بخصوص الموقف من الحرب الدائرة، سواء سلباً أو إيجاباً. ولذلك السبب تحديداً، ظلت آليات الغسيل الثقافي فعالة عربياً، بينما تعثرت غربياً بشكل ملحوظ. على سبيل المثال، قوبلت منحة ألمانية لفنانين من غزة، باستهجان شديد، وكذا برنامج عن فلسطين في المركز الثقافي الفرنسي في القاهرة أثار بعض الغضب، بينما قوبلت جائزة عربية لكاتب فلسطيني بكثير من الاحتفاء.

والغسل الثقافي لا يقتضي بالضرورة أي إملاء سياسي، بل على العكس، فالاستقلالية التي قد يتمتع بها العاملون في الحقل الثقافي (كما يمكن أن نراها في الحرية النسبية للجان الجوائز الثقافية في اتخاذ القرار من دون توجيه سياسي)، هي تحديداً ما يجعل الغسيل الثقافي ممكناً وناجعاً وذا مصداقية. 

يستلزم الغسيل الثقافي فصلاً تعسفياً بين السياسي والثقافي، يكون الأساس الخفي لفصام مرضيّ يضرب السياسية والثقافة معاً. فمن جهة، يتم التواطؤ على جرائم الحرب الهمجية في غزة، ومن جهة ثانية يتم تكريم بعض ضحاياها، بالضبط كما تقصف الطائرات أميركية الصنع قنابلها الغبية على القطاع لتقتل آلاف الأطفال بلا تمييز، وفي الوقت ذاته تلقي الطائرات نفسها المساعدات على السكان المتضورين جوعاً. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها