الإثنين 2021/05/24

آخر تحديث: 20:40 (بيروت)

لبنان:التعطيل كسياسة تطهير اجتماعي

الإثنين 2021/05/24
لبنان:التعطيل كسياسة تطهير اجتماعي
© Getty
increase حجم الخط decrease

بعد دخول الانهيار المالي والاقتصادي مرحلة متقدمة في لبنان صيف العام الماضي، في ظل جائحة كورونا وانفجار مرفأ بيروت، صار البلد أمام واقع اجتماعي جديد، مع طبقة فقيرة لا متناهية باتت غالبية السكان تقع ضمنها، وأخرى ثرية محدودة. لكن كيف يتبدل لبنان اجتماعياً، وما هي حدود هذا الانتقال؟

خلال السنة الماضية، اتسعت الهوة بين الفقراء والأغنياء بشكل مضطرد، وذلك في بلد يحتل مكاناً مرتفعاً في قائمة دول يُعد فيها الاختلاف في الثروة فضيحة. ذاك أن لبنان، ومنذ عام 2005، كما كتبت ليديا أسود في بحث لها في مركز مالكوم كير كارنيغي للشرق الأوسط، يتصف "باللامساواة الشديدة في المداخيل والثروات على السواء. ففي المعدّل، تستأثر فئة الـ1 في المئة الأكثر ثراءً من السكان بنسبة 25 في المئة من الدخل الوطني، فيما تحصل شريحة الـ50 في المئة الأكثر فقرًا على أقل من 10 في المئة. وفي ما يتعلق بالثروات، تملك فئة الـ10 في المئة الأكثر ثراءً من السكان نحو 70 في المئة من مجموع الثروات". 

بكلام آخر، قبل الأزمة الحالية، كان عُشُر اللبنانيين يملكون 70 بالمئة من مجموع الثروات في البلاد (مقارنة بتسعين في المئة يملكون الثلاثين الباقية).

اليوم، هناك واقع آخر، لا بل زلزال اجتماعي ما زالت ارتداداته متواصلة. ماذا حصل؟ الأزمة في أوجها، والأرقام المتوافرة هي الآتية:

أولاً، في أول صيف العام الماضي، ووفقاً لمنظمة العمل الدولية، وصلت نسبة البطالة الى 37 في المئة. طبعاً، مع الاقفالات المتتالية وانفجار مرفأ بيروت، يُتوقع أن يكون الرقم قد ارتفع بشكل كبير. ثانياً، لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الأسكوا) نشرت العام الماضي أيضاً أن عدد الفقراء في لبنان ارتفع من 28٪ من السكان عام 2019  الى 55% عام 2020. ثالثاً، توقعت وزارة الشؤون الاجتماعية في آذار (مارس) الماضي أن نسبة اللبنانيين الذين يحتاجون الى مساعدات نتيجة الانهيار والجائحة، وصلت الى ما بين 70 و75٪. بكلام آخر، أكثر من أربعة ملايين انسان يحتاجون الى مساعدات، إما غذائية أو صحية أو تعليمية. وهذا ليس رقماً نهائياً، بل نحن أمام واقع يتفاقم.

في المقابل، هناك مجموعة صغيرة من اللبنانيين، إما سياسيين أو ميسورين على صلة بالسلطة، تمكنت من تهريب أموالها للخارج، واستفادت كثيراً من الانهيار الحاصل. وهذه اليوم تعمل على زيادة حصتها المتضخمة أصلاً من الثروة. تشتري بدولاراتها العقارات بأسعار بخسة وتُساهم في تقليص الحُصة الصغيرة أصلاً للطبقة الوسطى التي تقلصت من 57% الى 40% خلال نصف عام فقط من الأزمة، وفقاً لتقرير الاسكوا (الرقم اليوم أصغر من ذلك بكثير، إذ تضاعف سعر صرف الدولار وتقلصت معه القدرة الشرائية لهذه المجموعة السكانية).

واللافت هنا أن عدداً كبيراً من مهاجري الطبقة الوسطى، من أصحاب المهارات، يُقدم على عملية تصفية عقارية لتمويل مصاريف الانتقال، كمن يقطع علاقاته نهائياً بالبلد من دون رجعة. وهذا مؤشر الى عمق الأزمة، والشعور بانعدام أفقها. لكن كيف بإمكاننا تمييز هؤلاء المهاجرين عن بقايا الطبقة الوسطى في لبنان؟ أو كيف نُصنّف من يُهاجر ومن يبقى؟

الإجابة الأولى هي أن أغلب المهاجرين الى دول الخليج وأوروبا هم من خريجي الجامعات الخاصة، ممن يرتبطون بالخارج إما من خلال الدراسة أو الأقارب. هذه شريحة قابلة للانتقال من الطبقة الوسطى، إلى موقع في الخارج يتيح تأمين مستوى مقبول من المعيشة. البقية الباقية هنا هي عملياً من أصحاب المهارات، ممن كانت تُعاني أصلاً من شُح الفرص في سوق العمل، والتي باتت اليوم شبه معدومة. هذه المجموعة غير قادرة على الانتقال.

وهذه أيضاً على الأرجح شريحة عُمرية، أي من هم غالباً في منتصف العمر، ولديهم عائلات كبيرة ومسؤوليات مالية. هذه شريحة تضم المهندس والطبيب الى المحاسب والموظف الحكومي بكافة أشكاله، والعاملين الإداريين والمحترفين في القطاع السياحي. هؤلاء يُسحقون، وتُسلب منهم مدخراتهم وممتلكاتهم في عملية شفط مؤلمة ومتواصلة. 

هذا التحول سياسي أيضاً. أليس لافتاً أن سياسيين كباراً ممن هربوا أموالهم للخارج، باتوا اليوم يُسددون رواتب موظفيهم بالليرة؟ وهؤلاء الساسة وزبانيتهم (متعهدون وتجار وأصحاب وكالات حصرية) من الواحد في المئة (وليس العشرة المذكورة أعلاه)، والأرجح أن حصة هؤلاء من الثروات المحلية تنتفخ بشكل سريع، وهذا ربما أحد أسباب اللامبالاة السياسية بتواصل الانهيار. 

لبنان الجديد كما يتشكل اليوم، يضم حُفنة من السياسيين وتجارهم الأثرياء، ومهاجرين سيزدادون حتماً، وبحر كامل من الفقراء في كل بقاع هذا البلد وأحياء مدنه. كان بالإمكان اطلاق ورشة إصلاحات ومشاريع بنى تحتية وفتح الاقتصاد للطاقات الشابة، للانتقال من الريع غير المنتج الى اقتصاد مختلف جذرياً ينعكس على السياسة ايجاباً. لكن ما نراه اليوم، هو خيار وليس قدراً محتوماً. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها