الأربعاء 2021/03/10

آخر تحديث: 07:28 (بيروت)

الكاميرا الهاتكة للسَّتر

الأربعاء 2021/03/10
الكاميرا الهاتكة للسَّتر
فضحت المحامي محمد جودت المتحرش بالأطفال
increase حجم الخط decrease
يظهر الرجل حسن الهندام، ببذلته كاملة، في وسط ما يبدو مدخل بناية قاهرية أو أحد أدوارها. بابتسامة دافئة يشير إلى الطفلة حتى تقترب منه، ويقول شيئاً لا نسمعه. والبنت التي يبدو على مظهرها تواضع الحال، تستجيب، ببراءة تتقدم نحوه. ويحدث كل شيء بسرعة، بشكل يوحى بأن الرجل متمرس في ما يفعله، نراه وهو يدفعها إلى ركن بعيد، ويشرع في انتهاك جسدها بيده. في اللحظة التالية، تظهر امرأة على الشاشة، ويبدو أنها تنهره، فالفيديو بلا صوت ولا نستطيع سماع الحديث الدائر. وفي لحظة المفاجأة تلك، تجرى الطفلة الفزعة إلى الخارج. وتظهر امرأة أخرى، ونرى ما يمكن تصوره كمواجهة وإنكار بين المرأتين والرجل، ثم تشير المرأة الأولى إلى دليل الإدانة، إلى أعلى، حيث الكاميرا التي رصدت كل هذا وسجلته، ويرفع الرجل رأسه محملقاً فيها مباشرة، فنعاين وجهه المستدير وملامحه بوضوح قوي ومقبض. وبعدها يشيح بيده علامه استياء، ويغادر المكان، فليس هناك ما يمنعه.


مجدداً، يثور غضب واسع على الشبكة، والسبب هو المقطع المصوّر. ويتم التعرف بسرعة على هوية الرجل. ولا تتوانى وسائل الإعلام عن تلقف القضية ما يعني تدخل الأمن أيضاً، وفي خلال ساعات يتم إلقاء القبض على الجاني. ولا نعرف إن كان الجهات المعنية تسعى للوصول للطفلة المجني عليها أم لا، أو إن كانت هناك خدمات عامة مؤهلة للتعامل مع الضحايا من عدمه. وكالعادة تتضارب الأخبار، فتنشر وسائل الإعلام تقريراً عن قيام إدارة محل عمل المرأتين بنهرهما بسبب "الشوشرة"، ويعود بعضها لاحقاً لنفيها. أما في الشبكة، فوسط طوفان من إدانة الجاني، يدعو البعض إلى "الستر".

لا يكاد يمر أسبوع في مصر من دون أن تتفجر قضية مشابهة، الموضوع على الأغلب هو الأجساد المؤنثة، بالغات وقاصرات، ودائماً الوسيط هو الصورة. قد تكون الكاميرات التي تقف أمامها النساء طواعية، حجة إتهام ضدهن، أداة للمراقبة والضبط الذاتي وعين مفتوحة على اتساعها للفضيلة الجماعية. لكن، وفي حالتنا تلك، تفضح الكاميرا الستر، وتلعب دوراً معاكساً، هتك الستر، بغية حماية الأجساد بأثر رجعي، بدلاً من قمعها. لكن ربما علينا تذكير أنفسنا بأن المسافة بين الاثنين أقصر كثيراً مما نظن. فكم من العدسات المتلصصة سنحتاج لحماية الجميع؟ فإذا كانت كاميرا المراقبة التي وثقت الاعتداء مثبتة بواسطة مرفق خاص (معمل تحليل)، في المعادي، حي الشرائح العليا من الطبقة الوسطى، فماذا عن النطاقات البعيدة عن خصخصة المراقبة؟ فأن تقع في دائرة حماية الكاميرا، امتياز لا يملكه الجميع بالتساوي.

هنا تكمن لعنة الكاميرا، في إيحائها الخادع بالشفافية، فيما يظل كشفها هو الاستثناء، لا القاعدة. فالنسبة الأعلى من الاعتداءات الجنسية على القصّر تكون أبعد ما تكون عن الكاميرات، والجاني في الأغلب يكون شخصاً محل ثقة ومحل سلطة أيضاً، قريب أكبر سناً، أو مدرّس، أو رجل دين. ككل مرة، سرعة إلقاء القبض على الجاني تشفي الغليل، لكنها تبرده أيضا للأسف. تبقى المقومات المحفزة لانتهاك الأطفال جنسياً قائمة كما هي بلا أدنى تغيير، أو بالقليل منه في أفضل الأحوال. ما زالت النظرة إلى أطفال الشوارع كخطر، لا كضحايا محتملين، هي السائدة. ومعها عمالة القصّر، وبالأخص العمالة المنزلية، والتكدس السكني كعوامل تربط بين الفقر وارتفاع فرصة الانتهاك. وبعيداً من الطبقة الاجتماعية ومستويات الدخول، تبقى الاستباحة العلنية لأجساد الأطفال بالعنف في البيوت والمدارس، هي العتبة الأوسع لاستباحتها بكل شكل آخر. فعبرها يُلقن القصّر، ولو بشكل ضمني أن أجسادهم منزوعة الكرامة، وبلا حماية ومتاحة للأذى، والأفدح إنها ليست ملكهم. وفي الوقت ذاته، تغيب التوعية الجنسية في مؤسسات التعليم، بل ويتم تجاهل مواد التعليم الجنسي الشحيحة في المناهج، فلا تُناقش داخل غرف الدراسة.

صحيح أصابت الواقعة المسجلة، الكثيرين، بالصدمة، صدمة كنا في حاجة إليها بشدة، في وجه الإنكار والتستر حد التواطؤ. لكن الصدمة غير كافية، وفي أسوأ الفروض يمكن أن تتحول إلى مجرد فرصة لتدوير الغضب، في انتظار مستسلم، للمرة التالية التي تقتنص فيها الكاميرا لنا اعتداء آخر.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها