الأربعاء 2021/03/03

آخر تحديث: 07:44 (بيروت)

صناعة المنفى

الأربعاء 2021/03/03
صناعة المنفى
سمير سنطاوي.. طالب مصري عاد من فيينا إلى القاهرة، لإجازة قصيرة، واختفى
increase حجم الخط decrease

"إن مفهوم الأراضي الغريبة (مثلها في ذلك مثل أرض الوطن) يحتوي على بعض الثغرات، وهذه الثغرات تفضي إلي أسئلة جديدة: هل الأراضي الغريبة واقع جغرافي موضوعي أم تصور عقلي في تغير مستمر؟" (روبرتو بولانيو، "المنفيون"، في كتاب "بين قوسين").

في منتصف كانون الأول/ديسمبر الماضي، استقل أحمد سمير سنطاوي، الطائرة من فيينا، في طريق العودة إلى مصر لقضاء إجازة قصيرة. وفي مطار شرم الشيخ -وربما كما ساورته مخاوف- تم توقيفه ووجهت له بعض الأسئلة. كان قد غادر القاهرة قبل أشهر، لدراسة الماجستير بمنحة في جامعة أوروبا المركزية، ومن حينها لم يحدث الكثير. قضى، مع معظم الطلاب، فصلهم الدراسي في الإغلاق العام، ولعل إقامته بدت له ولغيره، سجناً غير رسمي، حبساً انفرادياً في حجرات الطلاب المغتربين الضيقة.

غادر سنطاوي بلده بلا مشاكل، لم يكن مطلوباً ولم يتم منعه، وعاد أيضاً من دون أن يكون اسمه في لوائح ترقب الوصول. بعد أسبوع من رجوعه، اقتحمت قوة من الملثمين منزل عائلته في القاهرة، ولم يجدوه ساعتها. وبعد أسبوع آخر، سلم سنطاوي نفسه طواعية، ذهب بقدميه إلى مبنى أمن الدولة وانتظره والده في الخارج، واختفى بعدها.

قبل أيام، قرر الكاتب جمال الجمل، العودة إلى القاهرة، بعد إقامته أربعة أعوام في إسطنبول. غادر الجمل بلده بعدما مُنع من الكتابة وأغلقت في وجهه الأبواب، وقبلها كان السيسي قد تواصل معه هاتفياً بنفسه، وعاتبه على نقده للنظام. غادر الجمل عارفاً أن عودته ستكون على الأرجح غير ممكنة، واستقل طائرة الرجوع وهو يعلم أن فرص القبض عليه في المطار هي الأرجح، لكنه فعلها، واختفى أيضاً.

بين الحين والآخر، تطاردني الأسئلة الحزينة، ما الذي كان يشعر به سنطاوي في الأسبوع الذي سبق تسليمه لنفسه طواعية؟ كيف مرت عليه تلك الساعات، وهل ارتجفت قدماه وهو يخطو عبر بوابة مبنى الأمن؟ أي شجاعة وأي يأس كان هذا؟ وما الذي فكر فيه الجمل وهو على متن الطائرة، بشأن ما كان ينتظره؟ وأسال نفسي عن نوع المعاناة التي دفعته إلى تلك المخاطرة اليائسة.

بعد أيام من الاختفاء، ظهر الاثنان في النيابة العامة، ووجهت لهما التهم المعتادة، تمهيداً لدورة من التجديدات التي لا تنتهي. أضيف الإسمان إلى لائحة طويلة، تضم الباحث إسماعيل الإسكندراني الذي عاد من برلين، فاختفى في المطار قبل أن يُحكم عليه بسجن طويل، وكذلك طالب الماجستير في جامعة بولونيا، باتريك زكي، الذي ألقى القبض عليه في فبراير/شباط الماضي، بمجرد عودته لقضاء إجازة في القاهرة. قصص كثيرة عمّن مُنعوا من العودة، فلم يروا أحباءهم وهم على فراش المرض، أو حُرموا من وداع آبائهم وأمهاتهم قبل مثواهم الأخير، والمزيد من القصص عن الممنوعين من السفر، والعالقين في الخارج من دون أن يتمكنوا من تجديد جوازات سفرهم ووثائقهم الأخرى.

ترسم تلك القصص، واحدة إلى جانب الأخرى، حدود الأرض اليباب للمنفى، الثقب الأسود الذي يبتلع في داخله الذكريات والعلاقات والأماكن، تلك التي كانت دائماً هي الأقرب، وغدت فجأة من البُعد حد الاستحالة. تصنع كل ديكتاتورية منافيها. وليس المنفى مسافة يمكن قياسها، وليست مكاناً يسهل تعيين حدوده بين الخارج والداخل، وهو ليس زماناً للغياب وللانقطاعات. الديكتاتورية ذاتها هي المنفى.

مذهل المعجم في دقته أحياناً كثيرة، معاني اللفظة الواحدة، حتى ولو افترقت في الظاهر، تلمع فجأة لتفسر الواحدة الأخرى. النفي في اللغة ليس الإبعاد عن الوطن فحسب، بل أيضاً الإنكار. المنفى هو نفي الوطن، بمعنى محوه وإلغاء وجوده. تصنع الديكتاتورية منافيها في الداخل قبل الخارج، الحدود والموانئ، خطوط جغرافيا الأمان والانتماء المفترض، تتحول إلى مصايد للاختفاء. العودة المستحيلة تحيل الخارج، على اتساعه، سجناً، كما الداخل أيضاً، والرسالة هي أن يد العقوبة تطاول الجميع أينما كانوا. هكذا المنفى هو السلطة المطلقة للرعب، الرغبة الشرهة لبسطه بطول العالم وعرضه. في ظل الديكتاتورية، ينتفى المنفى نفسه، فالجميع منفيون بصورة أو بأخرى، والعالم امبراطورية كبيرة للاغتراب.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها