الثلاثاء 2021/12/14

آخر تحديث: 07:43 (بيروت)

نغضب من أمريكا.. نضرب فرنسا!

الثلاثاء 2021/12/14
نغضب من أمريكا.. نضرب فرنسا!
© Getty
increase حجم الخط decrease
عندما أعلنت فاليري بيكريس عن ترشحها لانتخابات الرئاسة الفرنسية عن حزب اليمين الجمهوري، في حوار معها في صحيفة لوفيغارو 22/07/2021، قالت أنها تفعل ذلك من أجل "استعادة مشاعر الفخر بفرنسا". المرشح الصاعد، اليميني المتطرف، إريك زيمور اختار لحملته عنوان "الاستعادة" أو "الاسترداد"، وفي المعنى المباشر استرداد فرنسا من المهاجرين، المسلمين تحديداً، وهو معنى ينسجم مع المغزى البعيد الذي يذكّر باستعادة إسبانيا من الحكم الإسلامي.

كان مشروع قانون "مكافحة الانفصالية" قد أخذ طريقه إلى الإقرار تشريعياً منذ منتصف شباط الماضي، والقانون الذي يؤكد على القيم العلمانية للجمهورية أثار ما يكفي من الضجة التي جعلته بمثابة توجه مضاد لمسلمي البلد، وبها يكون الرئيس ماكرون قد افتتح مبكراً المزاد الذي يتفاقم اليوم ضد المسلمين. الخاسر الانتخابي الأكبر قد تكون مارين لوبان، زعيمة اليمين المتطرف، فخطابها المرتكز أساساً على استعادة فرنسا من المهاجرين الذين يهددون قيَمها "المسيحية أساساً" سُرق ممن يزايد عليها تطرفاً "إريك زيمور"، ومن اليمين الجمهوري الساعي إلى استعادة خرافه الضالة، ومن ماكرون الذي لم يسجل في ولايته الأولى إنجازاً يدعم ترشيحه في انتخابات نيسان2022.

هناك اتفاق عام على انعدام فرص الفوز لأي مرشح يساري، حتى إذا اتفق الاشتراكيون والخضر واليسار المتطرف على مرشح وحيد يمثلهم. هذه التيارات لها مواقف غير عدائية من المهاجرين عموماً، ومن ضمنهم المسلمين، لكن شعبيتها مجتمعةً قد لا تتجاوز 30% من الفرنسيين. أيضاً يؤخذ على البعض منها انتهاج سياسة خارجية محابية لأنظمة مثل بوتين، أو لطغاة مثل بشار الأسد، ما يمنعها من تكوين خطاب شامل ومتماسك من الأسباب الراهنة لموجات اللجوء الأخيرة. 

تيارات اليمين المتطرف والشعبوي تكاد تهدد النخب السياسية في أوروبا كلها من جنوبها إلى شمالها، إلا أن لها في فرنسا وضعاً خاصاً، يمثّله بفجاجة إريك زيمور إذ يلمّح إلى العمق التاريخي لمعركة اليوم. التصويب الفرنسي ليس على المهاجرين جميعاً بوصفهم سبباً للأزمات الاقتصادية والمعيشية، هو خاصةً على المسلمين بوصفهم تهديداً للهوية الفرنسية، الهوية الموغلة في القدم والتي ينبغي بقاؤها ذات جوهر خالد، في استئناف للتهديد الذي كان قد انتهى مع استعادة إسبانيا منهم.

يتحدث زيمور عن شعب فرنسي له هويته "جوهره الثابت" منذ ألف عام، ووقائع التاريخ لا تسعفه في إطالة عمر هذه الهوية المتخيَّلة إلى الوراء، وإلا كان التلميح الأبلغ متجهاً إلى ما قبل عام 732م، حين صدّ الفرنجة والبورغنديون بقيادة شارل مارتل هجوم القوات الإسلامية الأموية بقيادة عبدالرحمن الغافقي بالقرب من مدينة تور الفرنسية. وكما هو معلوم، اعتُبرت معركة بواتييه تلك نهاية للتوسع الإسلامي في أوروبا، ولولا صد جيش المسلمين في فرنسا ربما اتخذ التاريخ منحى مغايراً جداً لما سار عليه.

يجد اليمين المعادي للمسلمين في فرنسا ضالته في الاعتداءات الإرهابية للتنظيمات الإسلامية التي ظهرت كأنها تستهدف فرنسا على نحو خاص، باستثناء اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر. فرنسا كانت حقاً الأكثر تعرضاً للهجمات وعلى نحو مستمر، فضلاً عن إحباط مخططات لهجمات أخرى. وهي للمفارقة "التي تنال اهتماماً أمنياً أكثر منه فكرياً" في طليعة البلدان المصدّرة للمتطرفين، ممن ولدوا وتعلموا فيها وحملوا جنسيتها، وفي طليعة من يتلقى نقمة التنظيمات التي يلتحقون بها على الغرب الكافر الذي يستهدف الإسلام والمسلمين. 

الطريف في ما يخص التنظيمات الجهادية أنها تعمل وفق قاعدة: نغضب من أمريكا.. نضرب فرنسا! فالغضب السائد في المنطقة العربية ينصب معظمه على السياسات الأمريكية، وبها يُختزل الحديث عن السياسات الغربية، في حين تأتي العمليات الإرهابية في فرنسا انتقاماً في غير محله، لولا أنه مبني أيضاً في العمق على الثأر التاريخي من البلد الذي حال قديماً دون توسع المسلمين في أوروبا. في أمثلة قريبة العهد، فُهم لدى كثر تحفُظُ باريس على انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي كاستمرار لحرص فرنسي على مسيحية أوروبا، وبالطبع هذا هو حال قوانين مثل منع الرموز الدينية في المؤسسات العامة و"مكافحة الانفصالية".

والانحراف عن المشاكل الأساسية والحقيقية للتصويب على خطر مصطنع أو مبسَّط يختزله المثل العربي المعروف "كل الحق على الطليان"، والمثَل ينطوي على تعمد تجاهل المشكلة الحقيقية أو على العجز عن حلها ما يستتبع التجاهل. الاستعانة المباشرة أو غير المباشرة بالتاريخ في حالتنا هذه يرمي بالمسؤولية عن جميع المشاكل على خصم تاريخي وحيد، وعلى صعيد متصل يصطنع من صورته خطراً داهماً تهون بالمقارنة معه جميع المشاكل التي ينبغي في الأصل أن ينصرف إليه اهتمام المنشغلين في الشأن السياسي.

ما يفعله اليمين الفرنسي بتدرجاته مشابه للقاعدة التي تعمل بموجبها التنظيمات الجهادية، فنحن "العائدة عليه وعلى جمهوره" غاضبون من مشاكل بنيوية في الاقتصاد، غاضبون من نخب سياسية تقليدية لم تعد تجترح فكراً جديداً منذ عقود رغم إلحاح الحاجة إليه، غاضبون من تردي القطاع الصحي ومن تردي التعليم والمواصلات... إلخ. وكل الحق على المهاجرين الذين يأتون لسرقة فرص العمل والوفرة الاقتصادية، وقبل ذلك وبعده لا ينصهرون كما يجب ليكونوا فرنسيين. بالطبع لا ينفع التذكير بمساهمة المهاجرين في نهضة العقود الثلاثة أو الأربعة التالية على الحرب العالمية الثانية، عندما أصبحت هناك أرضية لـ"مشاعر الفخر بفرنسا" التي تريد مرشحة الجمهوريين استعادتها.

ستفوز أطروحات اليمين بالرئاسة، سواء فازت بالمنصب بيكريس أو أعيد انتخاب ماكرون، ولا فرص حقيقية للوبان وزيمور، لكنها سيكونان قد أديا دوراً لا يُستهان به أثناء الحملات الانتخابية في مزاد تعزيز العداء للمهاجرين. ما سيفوز في النهاية هي العدمية السياسية التي سيدفع المهاجرون "المسلمون على نحو خاص" ثمناً لها، لكن استخدامهم كدريئة ينبغي ألا يخفي الثمن الذي ستدفعه فرنسا بأكملها، ثمن التهرب من المشاكل الحقيقية، ثمن غياب المشروع السياسي لصالح الشعبوية أو مرشّحي الصدفة، ثمن غياب الجديد المبدع الذي كان دائماً مصدر إلهام لآخرين ومصدر فخر بفرنسا.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها