السبت 2020/09/05

آخر تحديث: 08:10 (بيروت)

منحبكجية "السيدة" فيروز

السبت 2020/09/05
منحبكجية "السيدة" فيروز
increase حجم الخط decrease
كأنه كان عيداً، أو احتفاليةً تنتظر من يفتتحها. هكذا كان حال منحبكجية "السيدة" فيروز مع زيارة ماكرون الأخيرة إلى بيروت، والتي كما نعلم استهلها بالذهاب إلى بيت فيروز، مكرِّماً ومقدِّماً له وسام جوقة الشرف الفرنسي. القليل مما رشح عن الزيارة والتحضير لها عزز ما يرضي هؤلاء، فالسيدة فرضت شروطها، ومنها أن تكون الزيارة بعيدة عن وسائل الإعلام، وأن تبقى وقائعها طي الكتمان باستثناء ما توافقُ على إعلانه.

هي تُزار ولا تزور، بموجب تعبير تناوبَ على استخدامه كُتّاب وعشاق لها على وسائل التواصل الاجتماعي. هي أيضاً أكبر من الضيف والوسام الذي يحمله، حيث يكون التعبير مركّباً من التشوّف على الضيف ووسامه والاعتزاز المضمر بهما. وهي دائماً الملاك، بمقتضى وصفٍ درجَ على استخدامه عشاقها الملحدون بأكثر مما فعل نظراؤهم المؤمنون، وقد أطلّ الملاك من الصورة ليبادل الضيفَ الأرضيَّ الابتسام، أو بالأحرى ليبتسم عبره لغيره من الأرضيين المحرومين من نعمة اللقاء والذين كانوا ينتظرون تلك الصورة، أية صورة. 

قد لا تكون صورة فيروز استثناءً، فمعبودو الجماهير من الفنانين موجودون في كافة أصقاع الأرض. من المرجح أيضاً ألا تكون فيروز استثناءً لبنانياً بقدر ما هي الاستثناء السوري، ولعل اهتمام السوريين المفرط بإطلالتها الأخيرة يؤكد مكانتها السورية التي تفوق نظيرتها اللبنانية. بل قد يجوز الحديث عن دورها الجامع سورياً أكثر من تلك الفكرة الشائعة لبنانياً، فقد رأينا الاهتمام والشغف اللذين حظيت بهما من موالي الأسد ومعارضيه رغم أن المقتلة السورية فاقت الحرب الأهلية اللبنانية ولم تنشف دماؤها بعد. 

في سوريا فقط، نشأت أجيال كانت تتهيأ للذهاب إلى المدرسة أو العمل وهي تستمع إلى برنامج اسمه "مرحباً يا صباح"، يبث أغاني فيروز مع فواصل من الإنشاء العاطفي المتواضع يتلوها منير الأحمد ونجاة الجم، أيام كان الراديو هو الأوسع انتشاراً. رحلت نجاة الجم بوفاة طبيعية عام 2018، بينما قُتل منير الأحمد عام 1992 تحت التعذيب بعد اعتقاله في مطار دمشق لدى عودته إلى سوريا. هذا استطراد لا علاقة له بمكانة فيروز التي بقيت أغانيها مهيمنة على الإذاعات المدرسية السورية التي تبث في الاستراحات أثناء الدوام، فطوال عقود كان مسموحاً لتلك الإذاعات بثّ "الأغاني الوطنية" وأغاني فيروز فقط، ومن المحتمل أن نسبة كبرى من القائمين عليها كانت تهرب من بث الأولى إلى الثانية. 

لا إحصائيات لدينا عن حصة فيروز من البث في الإعلام السوري خاصة قبل انتشار الفضائيات، لكن من المتوقع أن تكون الأعلى خلال عقود، ما يجعلها جزءاً من وجدان السوريين عموماً، سواء أولئك الذين واظبوا على منحها الفرادة أو حتى الذين أقلعوا عن الاكتراث بها. هذه الحالة الفريدة تغري باستخدام تعبير سوري خاص هو المنحبكجية، وهو تعبير شاع مع الثورة السورية لوصف الأنصار المتعصبين لبشار الأسد الذين كانوا يرفعون صوره مرفقة بكلمة "منحبك". وجه التشابه هو وجود هؤلاء المغالين في عواطفهم واستعدادهم المطلق للدفاع عن المحبوب والإعلاء المطلق من شأنه، الاستعداد الذي ينعكس عنفاً تجاه منتقديه يوازي الشغف المعلن به. 

لمناسبة الضجة التي أحدثتها زيارة ماكرون، رأينا ذلك العنف اللفظي من منحبكجية فيروز إزاء سوريين آخرين كان لهم رأي معاكس، مع التنويه بأن نسبة معتبرة من الآراء المضادة أتت مُسيَّسة، أو من قبل أولئك الذين يريدون الخلاص من البديهية السورية المسماة فيروز، يريدون قطع حبل السرة مع الوجدان المشترك الذي يُراد له البقاء خارج السجال والجدل. وقد لا نخطئ بالإشارة إلى الجانب الأوديبي الذي لا يشرح فقط الرغبة في الخلاص من قيد طفولي، وإنما يشرح لنا من جهة أخرى تلك اللغة التي يستخدمها منحبكجية فيروز، اللغة المفعمة بما يُستخدم بوفرة لمناسبة عيد الأم، وبما يجمع عادة بين الأخيرة وأوصاف القداسة والعفاف. ولعلنا لا نخطئ بقراءة ظاهرة المنحبكجي عطفاً على حالة فيروز السورية، فالمنحبكجي لديه تلك الشراسة إزاء الخصوم بما يتناسب طرداً مع تعلقه الذي يَظهر شديد الشاعرية بمحبوبه.

يكذّب المنحبكجي أو يتجاهل تلك الوقائع والحقائق التي لا تتفق مع إعلائه من شأن محبوبه، وفي ذلك نرجسية مَن لا يقبل لنفسه أن يحبّ العادي أو الأرضي، وصولاً إلى استمتاع الأخير بالمبتذل أحياناً. يستهويه إطلاق عبارة من نوع "فيروز تُزار ولا تزور" بصرف النظر عن صحتها، ويستهويه القول أنها أكبر من الوسام الفرنسي من دون الرجوع إلى فنانات رفضن قبوله. يضعها في المكانة التي ترمز بها إلى بلد، ويتجاهل عزوفها عن أية لفتة خارج الغناء ولو من قبيل التبرع بمبلغ بسيط لضحايا انفجار المرفأ على غرار ما فعلت الممثلة العالمية ميرل ستريب. 

لا يندر أن تستدرجنا فظاظة المنحبكجي إلى استحضار نواقص محبوبه، فينحرف النقد عن نزع القداسة إلى الحطّ تماماً من قيمة المقدَّس. في وسعنا مثلاً تأويل احتجاب فيروز، قبل تقدّمها في السن، على أنه انخفاض في موهبة التواصل وُجد عند غيرها من المشاهير، من دون أن يقلل هذا من قيمته الفنية. في وسعنا الاعتراف بضعف صوت فيروز وفق المعايير الموسيقية، والإقرارُ بأن حفلاتها الأخيرة كشفت عيوبه لا يُنقص من قيمته كصوت محبَّب من "قماشة" ضعيفة لكن لها فرادتها. 

هناك مساحة تُحب فيها أغاني فيروز من دون أن تكون أيقونة، ومن دون الرضوخ لابتزاز منحبكجيتها، مساحة انتقائية وخاصة بمزاج من يريد سماعها نادراً أو أحياناً أو تكراراً. لم يقلل مثلاً من قيمة سلفادور دالي ما يُحكى عن بخله الشديد، ولا حياته البيتية الهادئة بخلاف استعراضاته المجنونة خارجاً. تالياً، قد يكون من الجشع إذا قلنا أن هذه مساحة يضيعها المنحبكجي على نفسه، مساحة تعفيه من توخي القداسة والنقاء والعفاف فيمن يحب، وتعفينا من إخلاصه وشراسته في الدفاع عن نموذجه. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها