السبت 2020/03/21

آخر تحديث: 11:16 (بيروت)

كورونا الذي يخرسنا

السبت 2020/03/21
كورونا الذي يخرسنا
ميلانو (Getty©)
increase حجم الخط decrease
لا صوت يعلو على صوت المعركة. الرئيس الفرنسي كرر كلمة المعركة مرات في خطابه قبل أيام وهو يطالب المواطنين بعدم مغادرة بيوتهم إلا للضرورة القصوى، ومسؤولون غربيون آخرون قالوا كلاماً مشابهاً. ماكرون نفسه، قبل يوم من خطابه "الحربي"، كان قد قال إثر تصويته في الجولة الأولى من الانتخابات البلدية أنه مسؤول عن صحة المواطنين وعن العملية الديموقراطية معاً، ليلغي بعد الجولةِ الأولى الجولةَ الثانية من الانتخابات. قرار المضي في الجولة الأولى، رغم الفيروس الذي راح يتفشى في فرنسا، لم يلقَ احتجاجاً سياسياً منظماً، واقتصر انتقاده على أفراد سخروا منه على وسائل التواصل الاجتماعي. لا نعلم ما إذا كان ذهاب أكثر من 40% من الناخبين إلى صناديق الاقتراع زاد في نسبة تفشي الوباء، فهذا ليس وقت تساؤلات من هذا القبيل؛ إنه وقت التضامن مع السيستم الموجود، وقت التسليم المطلق بأن النخبة الحاكمة ستفعل أقصى ما يمكن لإنقاذ رعاياها.

في إيطاليا وإسبانيا المجاورتين، حيث شهدنا أول تسارع في انتشار كورونا أوروبياً، لا نسمع انتقادات موجهة لنهج الحكومتين، أو تأخرهما في التعاطي الجدي مع بدء انتشار الفيروس، مع أن المثال الصيني كان معبّراً جداً في قسوته. هو وقت الوحدة والتضامن، الوقت الذي لا يضع فقط قيادات أوروبية خارج دائرة النقد، بل يُظهر حتى ترامب للمرة الأولى منذ انتخابه رئيساً للولايات المتحدة بجمهورييها وديموقراطييها. في زمن أقل خطورة، كنا لنشهد على الأرجح تحركاً ديموقراطياً لمساءلته عن محاولة شراء الحق الحصري لإنتاج لقاح محتمل من مختبر ألماني، لكن في زمن كورونا من السهل تجاوز هذه "التفاصيل"، والديموقراطية الإنكليزية العريقة قدمت مثلاً بتجاوز دعوة رئيس وزرائها إلى اعتماد سياسة "مناعة القطيع" التي تضحّي بلا رحمة بالفئات الأقل مناعة.

بالتأكيد هناك فارق جوهري بين معارضة غربية في أنظمة ديموقراطية، تعلّق نشاطها المعتاد في مواجهة خطر يتهدد البلاد، وبين أنظمة لا تسمح أصلاً بوجود معارضة لها. الفارق نفسه نجده في روح التضامن العام ضمن البلدان الديموقراطية، حيث تنطلق هذه الروح من الاعتبارات الإنسانية "كما في أي مكان آخر" وتزيد عليها بذلك المران الطويل على كون المواطن مسؤولاً، أو بالأحرى تزيد بكونه مواطناً مع ما لهذه الكلمة من مدلولات اجتماعية وحقوقية. 

إن الامتناع عن السياسة، بوصفها صراعاً مستمراً في الفضاء العام، يختلف عن منع السياسة من قبل نظم ديكتاتورية أو استبدادية وسيطرة الأخيرة على الفضاء العام بأكمله. لكننا، رغم هذا الفارق الجوهري، لا نستطيع تجاهل أثر الوباء الذي أدى إلى تخلي نخب سياسية غربية مع عموم المواطنين عن الحق في السياسة، بتعليق هذا الحق مؤقتاً، والاستنكاف الطوعي عن ممارسة الحق يستند إلى ثقة اضطرارية بالسلطة، وإن كانت المآخذ عليها السابقة للوباء لا تبرر الثقة المستجدة.

في الأصل، قبل ظهور كورونا، كانت الديموقراطيات الغربية في أزمة، وجزء منها عدم الثقة المعمم بالنخب السياسية الحاكمة. انعدام الثقة أوصل في العديد من البلدان إلى سدة القيادة أحزاباً ورؤساء نُظر إليهم كطفح عابر في مسيرة الديموقراطية، والبعض منهم وصل إلى السلطة تجنباً للأسوأ لا حباً به. من سخريات القدر "أو سخريات كورونا" أن تصبح هذه القيادات نفسها في موقع القيادات التاريخية، وأن يُسلَّم لها "ولكفاءاتها التي لم يُعترف بها من قبل على نطاق واسع" بالتصدي لأكبر خطر وجودي معاصر. بالطبع، الحديث عن دول ذات مؤسسات راسخة لا تخضع لأمزجة الحكام، من دون أن نبخسهم قدرتهم على اتخاذ قرارات مصيرية مؤثرة في أوقات حرجة، خاصة مع التعليق الفعلي للديموقراطية.

على صعيد أوسع، يتمنى كثر حول العالم لو يتم تعليق وتأجيل السياسات الدولية المعبّرة عن صراع المصالح، بهدف تعاون جميع الدول لما فيه مصلحة البشرية. المفارقة هنا هي المطالبة بحدود أكثر انغلاقاً بدواعي السيطرة الوطنية على تفشي الوباء، وفي الوقت نفسه المطالبة بمنتهى الانفتاح العلمي والتقني عبر الحدود وتأجيل الصراعات والمنافسات الدولية. هي مفارقة لا تخلو من السياسة فحسب، بل تجمع التناقضات؛ ثمة التوجس من الآخر، والارتياب في أنه لا يقوم بواجبه جيداً إزاء انتشار الوباء، وثمة تعويل على استثارة التضامن الإنساني الذي لم يسبق البرهنة على وجوده كما هو مأمول الآن. 

كأننا نرى تمريناً عالمياً سريعاً على ما يفعله الخوف، فالسياسة في الدول التي تحترمها هي أول ضحايا الخوف المعمم. الفرد هو من يتخلى طوعاً عن وصفه ككائن سياسي، ليتنازل إلى مستويات أدنى تتعلق بوصفه كائناً بيولوجياً يصارع من أجل البقاء. انبعاث الوطنية، في دول تجاوزتها، تعبير اجتماعي عن المحنة ليس إلا، أي أنه يتضمن التكافل أكثر من أي معنى سياسي معهود، ومن المبكر الحديث عن آثار مديدة للانغلاق الوطني رغم تحفز دعاة الانغلاق لاستغلال المناسبة الحالية. 

لعل ما لمسناه متسارعاً من آثار الخوف يقدّم لنا دليلاً مؤسفاً على نظم ديكتاتورية واستبدادية تقوم أساساً على صناعة الخوف، فما هو طارئ غربياً أصيلٌ في بلدان حُرمت من السياسة طوال تاريخها الحديث. مع التأكيد على أن ما يُسكت صوت السياسة غربياً هي قوة طبيعية قاهرة مؤقتة، فإننا نرى ونعيش ذلك الخوف الإنساني المشروع، وهذا من دواعي فهم وتفهّم من لم يعيشوا سواه طوال حيواتهم والتضامن معهم.

كأننا اليوم في عالم ليس فيه شعوب بالتعريف السياسي، عالم من الجزر البشرية المنعزلة والخائفة، عالم من الانتظار المفعم بالقلق، تعاود بعده شعوب مسيرتها "الناطقة"، وربما بأثر رجعي تتحرى من خلاله نواقص مسؤوليها وأخطاءهم، في حين تبقى أقوام أخرى في صمتها القسري. اليوم، يبدو العالم مقفراً وموحشاً وهو مستنكف عن السياسة، إنه عالم مقفر وموحش إذ يشبه ما كنا عليه دائماً. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها