السبت 2019/03/30

آخر تحديث: 10:30 (بيروت)

الموالي عندما يضجر من نفسه

السبت 2019/03/30
الموالي عندما يضجر من نفسه
increase حجم الخط decrease

بعد اعتراف الإدارة الأمريكية بسيادة إسرائيل على الجولان، سعت الأجهزة الأسدية إلى تكرار تمثيلية الرفض الشعبي للقرار، وسيق الموظفون وطلاب المدارس إلى الساحات، لتكون الحصيلة أقرب إلى المهزلة من إظهار الحد الأدنى من الغضب. من المتوقع أن تكرر الأجهزة ذاتها التمثيلية بغرض إتقانها، بخاصة مع حلول مناسبة عيد جلاء الفرنسيين عن سوريا، لكن ذلك سيتطلب منها استنفاراً أشدّ لحشد عدد كافٍ لتصويره وتضخيمه، واستنفاراً لضبط الحشد كي لا ينحرف عن النص المعدّ مسبقاً.

لنعترف أن صورة الأسدي اللامبالي إزاء القرار الأمريكي مفاجئة بعض الشيء، فنموذجه لدى أسياد الأسدية هو ذلك النموذج البافلوفي الذي يُتوقع منه النباح عند ذكر إسرائيل، والمقصود هنا نظرية بافلوف المعروفة بـ"الفعل المنعكس الشرطي" لا استخدام التشبيه على محمل الإهانة. وإذا توخينا الدقة، نستطيع القول أن الأسدي خالف أيضاً توقعات الكثير من المعارضين، عندما لم يتلبس الدور المرسوم له من قيادته، وعندما لم ينتهز الفرصة التي منحها إياه القرار الأمريكي كي يجعجع بوطنية مزعومة وإن تكن مستهلكة منذ زمن طويل.

أن يعقد كبارٌ حلقات الدبكة في وقفة يُفترض بها الرصانة على أقل تقدير، وأن يغني طلاب المدارس أغنية عاطفية مبتذلة بدل الأناشيد الوطنية؛ هذه مؤشرات غير بريئة مما حدث منذ انطلاق الثورة، ولا يقلل منها "بل يدعمها" ما شاهدناه غداة استخدام الكيماوي في قصف الغوطة وذهاب فنانات وفنانين إلى المواقع التي يُشتبه في إطلاقها الصواريخ المحملة بالكيماوي كي يحموها بصدورهم العارية بحسب تصريحاتهم. كما نعلم لم يكن القصف الأمريكي المتوقع كعقوبة على استخدام الكيماوي سوى كذبة ويعرف أصحاب الصدور العارية ذلك، لذا كانوا يعقدون حفلات السمر غير مبالين في جبل قاسيون، مثلما يعلم الذي أُخرجوا للاحتجاج على القرار الأمريكي أن الأمر برمته تمثيلية لن يأخذها أحد على محمل الجد، لذا لا بأس في تمضيتها بنوع من المرح واللهو.

خلال ثماني سنوات ظهر إلى العلن الخطاب الأسدي الذي ينص على أن إسرائيل الموالي هم أولئك الثائرين على الأسد، الإصرار على هذا الخطاب ليس بلا أثر، وليس وحده ما يجعل الأسدي الموالي المجبر على الاحتجاج يخرج عن النص. علينا لتفسير ذلك استرجاع عقود من استخدام العداء لإسرائيل كمجاز للاحتفاظ بالسلطة، وطوال تلك العقود كان يندر بين السوريين من يصدّق كذبة المقاومة ومن ثم الممانعة، بمن فيهم "بالأحرى على رأسهم" قادة الأسدية الذين يدركون أكثر من غيرهم ماهية الاستثمار وفوائده.

طوال عقود نزل المجاز إلى أرض الواقع فقط باتهام سوريين آخرين بأنهم عملاء إسرائيل، وإبادتهم بهذه التهمة. بمعنى آخر، أصبحت الكناية مكشوفة جداً، وفي غالب الأحيان لم يعد من ضرورة لها سوى الاستهلاك الإعلامي. هي واقعية بمعنى أن يرى الأسدي سورياً آخر كإسرائيلي تجب إبادته، وهي من جهة أخرى غير واقعية بسبب عدم وجود أدنى نية لقتال إسرائيل. شرط المجاز هنا أن يعبّر عن معنى مغاير تماماً، وكلما ابتعدت الدلالة عن المعنى الأصلي تصبح أكثر صدقاً، بحيث تبدو محاولة مناسبة إعادتها إلى الأصل هزلية.

ثمة عامل آخر يمنع تفاعل الأسدي جدياً مع محاولة استنهاض ذلك المعنى القديم، هو انخراطه منذ ثماني سنوات في التواطؤ على الدلالة الفعلية، ودماء التواطؤ لم تجف بعد. إنه الآن يرى نفسه شريكاً لا موضوعاً للتواطؤ، ويرى في الهمروجة الحالية حول الجولان استغفالاً له ينزل به من مرتبة الشريك؛ هو كمن يقول لقادة الأسدية بحسب مثل قديم دارج: لقد دفناه معاً.

يعلم الأسدي، وسواه من الذين بقوا تحت سيطرة الأسد، أن استخدام العداء لإسرائيل كمبرر لإبادة سوريين آخرين قد انتهى مع تمكينه من البقاء. هم الآن عن وعي يرفضون إعادة تدوير المجاز على النحو القديم، أي للتغطية على أزماتهم وخسائرهم، لأنهم عن وعي "أكثر مما كان قبل الثورة" يدركون فداحة ما سيحدث لهم تحت شعار مقاومة إسرائيل. التعبير عن عدم الاكتراث إزاء القرار الأمريكي الخاص بالجولان يستبطن ما سبق بتحويل الاحتجاج إلى مهزلة، وإظهار الأمر على حقيقته تماماً.

الدرس الآخر، الذي لا يُستبعد أن يكون الموالون قد تعلموه، هو أن استثمار المسائل الوطنية على هذا النحو كان دائماً سمة الأنظمة الفاشية، وكان يُقصد به دائماً التلطي وراء الوطنية في الحرب على مفهوم المواطنة. كما شهد الموالي للتو، لم يجلب له تخوين سوريين آخرين وإبادتهم "بمشاركته أو تشجيعه أو صمته" حقوقاً مكتسبة كمواطن، ولم يحصل على أدنى درجات الاعتراف به على هذا الأساس رغم الثمن الباهظ الذي دفعه. الأسوأ من ذلك أن قادة الأسدية لا يحترمون عقله ولا كرامته تالياً، ويريدون منه تصديق الكذبة ذاتها المرة تلو الأخرى.

ربما نخطئ قليلاً عندما لا نرى الأسدي خارج الجمود العقلي والابتذال، إذ لا يخلو مقلب الموالاة من الذين ضجروا من ابتذال الأسدية، وضجروا من صورتهم فيها. هؤلاء لا تحركهم بالتأكيد دوافع مشابهة للذين آمنوا بالثورة، لكنهم أيضاً ليسوا فقط على الصورة المتخيَّلة للموالي المُستلب دائماً وأبداً. البعض منهم يدرك انقضاء زمن الأسدية بأدواتها المعروفة، ويتمنى صادقاً إصلاحها، بينما البعض الأكثر إدراكاً متأكد من عبث المراهنة على إصلاحها. لذا من المتوقع أن نشهد مزيداً من المهازل، وسيكون قوامها سلطة عاجزة عن تطوير أدواتها وجمهور عاجز عن استئناف الدور المرسوم له، حتى إذا كان قد أدّاه من قبل بإخلاص وحماس.

هذه المهازل المتكررة تشير إلى ما يخالف ظناً قديماً لا يزال شائعاً، مفاده أن إسرائيل تقدم خدمة للأسد أمام مواليه، سواء عندما تقصف مواقع له أو عندما تعيد قضية الجولان إلى الواجهة. إذا كان موالو الأسد قد تجاوزا تلك المناورات فمن باب أولى أن تكون إسرائيل قد تجاوزتها، في انتظار أن تفقد مكانتها الأثيرة كأداة لتحليل العلاقة بين جماعة الممانعة وإسرائيل.    

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها