الخميس 2019/02/14

آخر تحديث: 09:22 (بيروت)

إيران:تصدير الثورة..والنفوذ

الخميس 2019/02/14
إيران:تصدير الثورة..والنفوذ
increase حجم الخط decrease
"بعد اربعين سنة استطعنا ترسيخ نظامنا السياسي وباعتراف الذين لا يقبلون بقوة الجمهورية الاسلامية، تحولنا الى القوة التي لا منافس لها في المنطقة" هذا الكلام ليس لاي شخص عادي في السلطة الايرانية، انه لوزير خارجية سابق ونائب رئيس الجمهورية الحالي لرئيس الجمهورية رئيس منظمة الطاقة الذرية الايرانية علي أكبر صالحي، وامام السلك الدبلوماسي الاجنبي المعتمد في ايران، وامام كل الوزراء الاحياء الذين تولوا وزارة الخارجية باستثناء مير حسين موسوي الذي مايزال يقبع في الاقامة الجبرية بعد تزعمه للثورة الخضراء عام 2009 بعد ازمة انتخابات رئاسة الجمهورية.

يعترف أحد اركان الدبلوماسية الايرانية وأحد ابرز المحافظين المعتدلين الذي يقترب في دبلوماسيته من الليبراليين، بان ما حققته ايران بعد مرور اربعين عاما على ثورتها لا يمكن ان يكون نتيجة حصرية للبعد الديني (الاسلاموية)، انما هو نتيجة عوامل مركبة قبل الثورة ساهمت في صناعة الانتصار، ومروحة واسعة من الاليات لجأت لها ايران ما بعد انتصار الثورة.

فهي نتيجة ثورة المشروطة 1906 وثورة مصدق 1953 اللتين أرستا شعوراً بضرورة احداث تغيير في المجتمع الايراني والنظام السياسي الملكي، وصولا الى عام 1963 وبدء حركة الامام الخميني الذي تصدر المشهد السياسي او المعسكر المعارض للنظام الملكي الى جانب القوى الوطنية في الجبهة الوطنية بقيادة مصدق ومهدي بارزكان وغيرها من القوى الاسلامية واليسارية.

الشارع الايراني وبناء على احساس الثقة بالنفس في بداية الثورة، كان يعيش حالة من فائض النشوة بالانجاز، وتحول السؤال الاول والاساس الموجه للشعوب والقوى السياسية في الدول المجاورة والاسلامية "لماذا لا تقومون بثورة؟" والذي تحول الى تأسيس منهجي وسلوكي لدى القيادة الثورية الفتية لمفهوم "تصدير الثورة" في اطار رؤية استراتيجية تقوم على تعزيز موقع ودور ايران على انها "أم القرى" من منطلق المفهوم القرآني حول موقع مكة المكرمة في الاسلام،

)وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ﴿٧﴾)

وايضا (هَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ. الانعام ﴿٩٢﴾) ،

هو ما أسس له الامام الخميني حول مركزية الجغرافيا الايرانية بالنسبة للدول الاسلامية، على غرار مكة المكرمة، وهو ما يستدعي العمل على تحويل هذه الدول الى أمة واحدة ودولة اسلامية تمهد الطريق امام اقامة نظام اسلامي بقيادتها، وبالتالي يخرج ايران من حدودها الجغرافية ويحولها الى محور هذا العالم وزعامته، انطلاقا من رؤية الخميني التي تقول ان الحفاظ على ايران كأم القرى للعالم الاسلامي ضروري من اجل الحفاظ على الدين الاسلامي.

هذه النظرية شكلت المنطلق الذي قامت عليه رؤية "تصدير الثورة" في العقد الاول للثورة الاسلامية، والذي سمحت طهران لنفسها في مد يدها الى المكونات الاجتماعية والثقافية والمذهبية في الدول المجاورة خصوصا، لدفعها من اجل تبني خيار الثورة والانقلاب على انظمتها السياسية وبناء انظمة اسلامية على غرار ما حصل في ايران، تؤسس لالغاء الحدود وتحويل ايران الى مركزية هذه التغييرات المطلوبة.

هذه الجهود استمرت طوال العقد الاول من الثورة حولت فيها الحرب التي شنها العراق ضدها الى محفز لتوسيع عملها على تطبيق هذه النظرية مستفيدة من تبني القضية الفلسطينية كخيار اسلامي وربط الوصول اليها بالمرور بغداد وكربلاء وعدد من العواصم العربية والاسلامية.

بعد انتهاء الحرب مع العراق ووصول الرئيس السيد علي خامنئي الى موقع ولي الفقيه ومرشد النظام بالتوازي مع وصول الشيخ هاشمي رفسنجاني الى رئاسة الجمهورية، بدأ يتبلور في ايران توجه اكثر هدوءًا وعقلانية، ينحو باتجاه تخفيف بؤر التوتر والتشنج مع المحيط والجوار العربي والاسلامي من خلال تبني سياسة الانفتاح، وهو الامر الذي نجح الى حد كبير خصوصا باتجاه المملكة العربية السعودية. وهو توجه عززه وصول السيد محمد خاتمي الى رئاسة الجمهورية الذي استطاع ان يتجاوز في سياسة الانفتاح والحد من التوتر المحيط العربي والاسلامي الى المجتمع الدولي في محاولة لاعاد وضع ايران على الخارطة الدولية من جديد في ظل تسارع التطورات التي شهدتها تسيعينيات القرن الماضي خصوصا ما يتعلق بالقضية الفلسطينية وتوقيع اتفاقيتي اوسلو ووادي عربه بعد مؤتمر مدريد، وهي مسارات كانت تزيد من المخاوف الايرانية ان تؤدي الى عزلها عن التأثيرات الاقليمية.

مع بداية الالفية الثالثة، كانت ايران امام تحد من نوع جديد، فرضه الاحتلال الامريكي لافغانستان 2001 ومن ثم احتلال العراق 2003، ما يعني ضرورة اعتماد استراتيجية جديدة لم تعد رؤية أم القرى قادرة على تحقيقها، وهي استراتيجية لا تبتعد كثيرا عن الرؤية التي سبق ان تبناها النظام الملكي اتجاه المنطقة والاقليم، وحجم الدور والنفوذ الذي يجب ان تضطلع به.

انطلاقا من هذه التحديات التي هددت مصير الدور والموقع الايراني، وتحت شعار "الحياد الايجابي" لجأت ايران الى اعتماد سياسة ملء الفراغ الاقليمي، وطبقتها على مستويات مختلفة، ففي افغانستان من خلال دورها وتأثيرها على قوى متحالفة معها شكل تحالف الشمال ركيزتها ما وفر لها الارضية للتأثير في مستقبل افغانستان الجديد، او من خلال حلفائها من الفصائل والقيادات العراقية حتى المقربة من واشنطن، او من خلال الهيمنة على الجيوبولتيك الشيعي في الدول الاخرى من اليمن مرورا بالبحرين ولا ينتهي في لبنان. مستفيدة من انكفاء عربي وعزوف عن التعامل مع المستجد السياسي في تركيبة السلطة والمتغيرات الاجتماعية في هذه الدول.

ولعل الذروة في الانتقال من الراديكالية في الشعار "تصدير الثورة وبناء الدولة الاسلامية الواحدة بمحورية ايران – أم القرى" الى الذروة في التعامل البراغماتي في اطار استراتيجية تعزيز النفوذ والدور، هي مرحلة العقد الثاني من الالفية الجديدة، خصوصا 2011 وما شهدته الساحة السورية من ثورة في البدايات نحت سريعا نحو العنف والارهاب والتطرف، المرحلة الابرز في بلورة المشروع الايراني العاري عن اي مجملات دينية او مذهبية، وغارق في نظام المصالح والحفاظ على الدور والموقع.

هذه التحولات في الاستراتيجية الايرانية، لعبت دوراً حاسماً في تعاملها مع الازمات التي كانت تحاصرها مع المجتمع الدولي، خصوصا في التعامل مع الادارة الامريكية ومسألة العقوبات الاقتصادية وازمة ملفها النووي، وقد سمح التمدد الايراني في المنطقة وتركيز نفوذها في عدد من العواصم العربية بان تجلس الى طاولة المفاوضات مع واشنطن وتضع امامها اوراقها الاقليمية وامكانية لعب دور ايجابي في حل الازمات التي توجهها منطقة الشرق الاوسط وغرب اسيا مقابل تحقيق انجازات في الملف الاقليمي، وقد استطاعت ان  تحصل على شبه تفويض امريكي بادارة ازمات المنطقة من ادارة الرئيس الامريكي السابق باراك اوباما مقابل اتفاق نووي يكبل طموحها النووي ولا يعطله او يلغيه.

وعلى الرغم من مسارعة بعض الشخصيات الايرانية التي مازالت تعيش مرحلة المثالية الثورية وحلم تحقيق العالمية الاسلامية ورؤية أم القرى للترحيب بالانتفاضات الشعبية العربية او ما سمي بالربيع العربي واعتبارها إمتداداً للثورة الاسلامية ومتأثرة بروحها، الا ان هذا التوجه سرعان ما إصطدم بحقيقة التعامل مع التطورات السورية، فتحول الوقوف الى جانب النظام والدفاع عن دمشق بمثابة الدفاع عن طهران واستمرارية وبقاء النظام الايراني، وباتت خسارة الاهواز التي تشكل عماد الاقتصاد الايراني من النفط أهون على هذه القيادة من خسارة دمشق، لان ايران قادرة على استعادة الاهواز، في حين انها لن تكون قادرة على الدفاع عن طهران في حال سقطت دمشق، اي تحولت الازمة السورية الى ازمة وجود بالنسبة للنظام الايراني.

هذا الموقف من الازمة السورية، انسحب ايضا على التعامل مع مختلف الساحات العربية التي تشكل مساحة نفوذ لايران في المنطقة، وتشكل رأس حربة في مشروع التفرد الايراني في الحلول على حساب الدول العربية، فتحولت الساحة العراقية الى ملعب للصراع المباشر بين ارادتين واحدة ايرانية واخرى امريكية ترفدها جهود عربية خجولة لتقاسم النفوذ، اضافة الى مساعٍ لتثبيت الدور والنفوذ على الساحة السورية في مواجهة حليف مرحلي هو الروسي، اما في ما يتعلق بالساحة الفلسطينية، فان الاصرار على التمسك بهذه القضية لا يمكن حصره في البعد العقائدي فقط كما في البدايات، بل طغى عليه البعد المصلحي وما يشكل من موقع ودور ونفوذ على الساحة العربية والاسلامية، وتحديدا في توزيع الاحجام والادوار والنفوذ على الساحة الاقليمية بمواجهة اسرائيل.

يمكن القول، انه وعلى مدى اربعة عقود من عمر الثورة، استطاع النظام الايراني من احداث تغييرات في مفردات الخطاب الذي اعتمده اتجاه المنطقة والاقليم وقضاياهما، واستطاع من دون التخلي عن الخطاب الديني ان يرسخ رؤية استراتيجية للدور والموقع الايراني في المنطقة والعالم تقوم على اساس حجم الدور والنفوذ والسيطرة معتمدة على براغماتية عالية في الاحتفاظ بحلفائها ونفوذها.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها