الثلاثاء 2019/12/24

آخر تحديث: 11:54 (بيروت)

مظلومية إسلامية..إلى الصين

الثلاثاء 2019/12/24
مظلومية إسلامية..إلى الصين
التعاطف الانتقائي أو الخوف من الصيغة الهوياتية الضيقة للشعور بالظلم لن تفيد ولا مكان لها.
increase حجم الخط decrease
كان ذلك في شتاء عام 2006، طريق ترابي غير معبّد، يتلوى كالأفعى بين قرى محافظة أسوان، أقصى جنوب مصر، سلك سائق التاكسي الطريق الفرعية "غير الرسمية" ليتفادى حواجز الأمن، كان في صحبتنا أجانب، وسلوك طريق الأسفلت سيتطلب الانتظار، لنلحق بذيل فوج من الاتوبيسات السياحية تحت حراسة مصفحات الشرطة، انتظار طويل وتكلفة عالية.

في واحدة من القرى على الطريق غير الممهد، توقفنا لراحة قصيرة وشراء المرطبات، فقر شديد وصادم، هذا كان الشيء الوحيد الممكن رؤيته حولنا، لافتة قماشية على المدخل تعلن عن مقاطعة الأهالي للمنتجات الدانماركية، موقعة باسم عضو في مجلس الشعب عن الحزب الوطني. على الدكان الوحيد هناك، شبة الخالي من البضائع، باستثناء المشروبات الغازية والغاز والعلف ومسحوق الغسيل، ورقة مكتوبة بخط اليد "إلا رسول الله يا دنمارك".

كانت أزمة الرسوم المسيئة للرسول على أشدها، السفارات الدانماركية تحرق في العواصم العربية، قتلى بالعشرات في مواجهات مع الأمن في مدن الدول ذات الغالبية المسلمة، في مصر زايد النظام على حركات الإسلام السياسي في الحشد العاطفي، الدانمارك دولة هامشية ولا ضرر من تعلية الخطاب الرسمي ضدها، عدو بعيد جدا ووهمي. سأل أحدنا صاحب الدكان عن المنتجات التي قاطعها، كان سؤالا خبيثاً ومحشواً بمزيج من التهكم والشفقة، وأخبرنا الرجل بأنه توقف عن بيع الجبنة النستو (المثلثات). بدا المشهد كعرض هزلي غير متعمد، منطقة مهمشة متورطة في عولمة من نوع ما ومحرومة في الوقت ذاته منها، الشعور بالمظلومية سلاح مذهل، وخصوصاً ان كان الجاني لا يمكن مواجهته، يصبح الشعور بالظلم ورماً شرهاً يأكل نفسه.


تأتي دعاوى المقاطعة، ضد الصين هذه المرة، لا وجه للمقارنة في الحقيقة، بالأحرى كل شيء على النقيض، الضحية ليست قيمة رمزية بل بشر من لحم ودم، تقارير عن معسكرات جماعية  واضطهاد ممنهج وقاسٍ، بعض ممثلي الإسلام الرسميين يلزمون الصمت، السعودية في ثوبها "الإصلاحي" الجديد تلمح إلى مباركتها للإجراءات الصينية ضد مسلمي الإيغور. على عكس المنتجات الدانماركية التي لم يجدها أحد بالأساس ليقاطعها، لا تبدو مقاطعة الصين ممكنة، كل شيء صيني أو على الأقل صنع في الصين. الأميركيون الذين يتهمهم معادو الإمبريالية بالوقوف وراء الحملة ضد الصين، هم من أدخلوا قوة انتاجيتها الجبارة في المنظومة المعولمة للإنتاج والاستهلاك، يقولون الخلاف على الشروط، على تعديلها لصالح الولايات المتحدة، إتفاقية تجارة جديدة في الأفق، والإيغور وهونغ كونغ والعقوبات الأميركية كلها أوراق للتفاوض.

قوة عمل صينية هائلة رخيصة ومقموعة هي قاطرة النظام الرأسمالي اليوم ولا أحد يريد التخلي عنها. يسخر هؤلاء من دعاة المقاطعة، هل تذكرون أفغانستان، والجهاد ضد الإتحاد السوفياتي؟ المؤامرة نفسها، لماذا الصين تحديدا اليوم؟ وماذا عن الهند؟ أو الولايات المتحدة؟ كم قتل من المسلمين في حرب اليمن؟ الأسبوع الماضي بدأ ضخ الغاز الإسرائيلي عبر الحدود إلى مصر والأردن، هل عاد من الممكن أن نقاطع المنتجات الإسرائيلية حتى؟ 
علمانيون وأقليات يريدون احتكار المظلومية، أو على الأقل يتوجسون من المظلومية الإسلامية، يجادلون بأن الغضب يوجه إلى ضحايا آخرين دائماً لا ضد الجناة، لا حجة أقوى من الإشارة إلى أبناء الإيغور الذين حاربوا في تنظيمات جهادية في سوريا.

المظلومية تلك حقيقة اليوم أكثر من أي يوم مضى، أمر واقع من ميانمار إلى الصين فالهند والولايات المتحدة، اضطهاد ممنهج ورسمي وعلني ضد المسلمين، وضد غيرهم بالطبع. محاولة الإنكار، أو التعاطف الانتقائي أو الخوف من الصيغة الهوياتية الضيقة للشعور بالظلم لن تفيد ولا مكان لها. مظاهرات هونغ كونغ المتعاطفة مع الإيغور، تضامن الطلبة وأبناء الأقليات الأخرى والساسة المعارضين من أبناء الغالبية في الهند ضد قانون الجنسية، وقوف المسؤولين في ميانمار أمام المحاكم الدولية، ثورات السودان والعراق ولبنان المتجاوزة للتقسيمات العميقة وتاريخها الدموي، كل هذا يمنحنا مثالا وأملا في تضامن أوسع وأكثر إنسانية، لا في مراكمة الأحقاد وبناء تاريخ مرير من المظلوميات والشفقة على الذات، بل بمد الأيدي عبر الحدود والخطوط الطائفية والأثنية، بالرغبة في الإنصاف للجميع، وللتحرر من منظومة معولمة... 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها