الإثنين 2018/07/09

آخر تحديث: 22:25 (بيروت)

في عُنفنا المقبل

الإثنين 2018/07/09
في عُنفنا المقبل
increase حجم الخط decrease

من دون نعي يمكن القول بأن الخيار العسكري قد طوي في سوريا، فما تبقى خارج سيطرة الأسد وحلفائه يخضع لأهداف تخص هواجس دولية وإقليمية، وربما يستفيد الأسد منها. منطقة النفوذ التركي، مع الفصائل المحلية الموالية لها، موجودة للتصدي للأكراد، ومنطقة النفوذ الأمريكي تعتمد أصلاً ميليشيات كردية كانت من قبل متحالفة مع الأسد، وإعادتها إلى تحالفها القديم مسألة وقت ليس إلا. ومن الواضح أن المنطقتين تنتظران تفاهمات خارجية جديدة، من ضمنها التحايل على الوجود الإيراني الفاقع بتمويهه على غرار نموذج درعا، من أجل إغلاق هذا الملف نهائياً.

إذاً ما سُمّي يوماً عسكرة الثورة السورية قد انتهى تماماً، بعد غرقه من قبل في الإطار الإقليمي والدولي للصراع، ومن ثم ببناء التفاهمات الخارجية على دماء السوريين وأنقاضهم. تلك بشرى سارة للذين رفضوا مبكراً هذا الخيار، بشرى تسهّل الشماتة بأولئك الذين وقفوا مع خيار القوة لإسقاط الأسد، والأهم أنها تقفل الباب نهائياً على خيارات التغيير، فواقعياً فشل خيار التغيير السلمي وبعده الخيار العسكري. القناعة العامة لدى عموم السوريين تنص على أن القرار الدولي في مصلحة تنظيم الأسد، بصرف النظر عن الاختلاف في تأويله، ما يعني تالياً فشل المراهنة على دعم أممي يعوض اختلال ميزان القوى.

لكن يلزمنا الكثير من التجرؤ على الواقع للقول بأن دورة العنف قد انتهت، أو في سبيلها إلى النهاية. نحن أمام سلطة ترى "ويرى مؤيدوها" عن حق أنها لم تتمكن من البقاء إلا بفائض قوة حلفائها، وهي ستبقى مهددة بالسقوط ما لم تستجمع مزيداً من القوة لسحق أي تمرد مستقبلي. في الوقت نفسه نحن إزاء سوريين استُخدمت ضدهم واحدة من أبشع مجازر التاريخ، وبعد التخاذل والتلاعب الدولي بقضيتهم ثمة توجه لجعل تضحياتهم بلا ثمن، الأمر الذي يضمر قهرهم أو بالأحرى سحقهم وتجريدهم من أية فرصة لاستئناف صراعهم المحق.

الخاتمة المؤقتة الحالية تستوجب منا استعادة تاريخ العنف السياسي، لعلنا نتخلص من ذلك الجدل المبتذل حوله. فالعنف كان عبر التاريخ هو وسيلة السلطة لمنع التغيير، وهو وسيلة الاستبداد لمنع الصراعات الاجتماعية السلمية والإقرار بما تفرضه من موازين قوى على السلطة. بهذا المعنى لم يكن العنف في الأصل خيار الراغبين في التغيير إلا في حالتين، حالة الضرورة المباشرة عندما يُواجَهون بالعنف، أو استباقاً لمعرفتهم أن السلطة القائمة ستواجههم به. الاحتمالان متوفران في الحالة السورية بما يكفي، فالدولة الأسدية لم تتوقف يوماً عن استخدام فائض القوة، ولم تتوقف طوال عقود عن منع الصراع الاجتماعي السلمي وهذا هو فحوى منع السياسة والديموقراطية، وهي بهذا المعنى مولِّدة للعنف ولن تتوقف عن توليده. العنف هو جوهر الأسدية، ولن تتوانى عن استخدامه لمنع أشكال الصراع السلمي، ومن الخطأ التاريخي الظن بأن العنف المضاد سيختفي تحت وطأتها أو وطأة حلفائها حالياً، مثلما سيكون من الخطأ الظن بأن آراء "دعاة سلميين" سيكون لها تأثير على حركة مُختبرة ومُجرَّبة تاريخياً. الاستشهاد بحركات تغيير سلمي "تدريجي أو غير تدريجي" ناجحة لا يطعن في الخلاصة السابقة، لأن هذا المسار يتوقف على الإمكانيات التي يتيحها الخصم وإن كانت محدودة؛ لنا أن نتصور على سبيل المثال مصير احتجاجات دول أوروبا الشرقية لو كان أندروبوف أو بوتين حاكمين لتلك المنظومة بدلاً من غورباتشوف.

وفق الصورة الماثلة أمامنا، العنف في سوريا قادم وحتمي؛ العنف ضد الاحتلال الأسدي ورموزه، والعنف ضد الاحتلالين الروسي والإيراني، وربما قبلهما وخلالهما العنف الثأري أو العنف العدمي. الإيمان بقدرة قوى الاحتلال مجتمعة على الضبط والسيطرة هو اعتقاد ساذج، ومن المحتمل جداً أو المرجح أن تتراجع هذه القدرة طرداً مع ازدياد المساحة التي يسيطر عليها الأسد وحلفاؤه. في الواقع قد نكون إزاء صورة معكوسة عن استعادة السيطرة، وعن مشاريع إعادة تدوير الأسد، لأن الفرز السابق بين مناطق خاضعة لسلطته وأخرى خارجة عن السيطرة كان يجعله أكثر ارتياحاً وأماناً في مناطق سيطرته، وحتى استعادته القدرة على التجنيد الإجباري لشباب من المناطق التي يستعيدها قد تكون مصدر ضعف لا قوة.

بطبيعة الحال سيتجاوز العنف المقبل الطور المنتهي مما سُمّي عسكرة الثورة، ومن المحتمل جداً أن يكون خارج آليات الضبط الخارجية، أو خارج تلك الحاجة الماسة لدعم خارجي. ذلك سيجعل منه أكثر استقلالية، وأقل ارتهاناً للأجندات الدولية والإقليمية، دون أن يعني بالضرورة امتلاكه برنامجاً سياسياً وطنياً. نظرياً، القوى الأكثر استعداداً لطور جديد من العنف هي ذاتها التي ساهمت بنشاط في طور العسكرة، وإذ من الوارد أن تتقدم قوى إسلامية لتولي هذا النشاط فمن المتوقع أن يعيد نشاطها جدالات قديمة حول استفادة الأسد من كونها خصمها إسلامياً منبوذاً دولياً، فضلاً عن استفادته داخلياً واستمراره في نغمة تخويف الأقليات والاستثمار بواسطة "علمانيين" يخشون المدّ الإسلامي. لا تخرج عن هذا الإطار حاجة تنظيم الأسد إلى استمرار الحرب بأدوات أخرى، لأن إبقاءه على حالة الاستنفار القصوى يعفيه أمام مؤيديه من تبعات إعلان الانتصار وعودة الحياة الطبيعية، وما يترتب على ذلك من مهام ينبغي أن يتولاها نظام لا تنظيم حرب.

تقدّمُ قوى إسلامية لاستلام زمام العنف يبدو كحتمية سورية، فمنذ انقلاب البعث ظهر استخدام العنف المضاد كماركة إسلامية، والحالة اليتيمة المغايرة تماماً هي حالة "المنظمة الشيوعية العربية" التي اعتمدت العنف وسيلة ضد ما تعتبره مصالح أمريكية في سوريا، بينما راهن بعثيون يُحسبون على تيار "صلاح جديد" حتى منتصف الثمانينات على اختراق الجيش والقيام بانقلاب على سلطة الأسد. وإذا سبق لتنظيمات يسارية المراهنة على ثورة شعبية فقد حدثت فعلاً عام 2011 بعد زمن من انهيار تلك التنظيمات، وحصل ما نعرفه من استخدام الوحشية المفرطة لوأد الحراك الذي بدأ سلمياً، أي لإقفال باب الصراع السلمي.

ربما يتعين على تفكير جديد التوقف عند هذه الوقائع كافة، فإذا كان هناك وعي لواقع أن الصراع مع تنظيم الأسد لن يتوقف، وهذا من طبيعة الأمور قبل أن تُضاف فوقه وحشية ما يزيد عن سبع سنوات، وإذا كان الصراع الديموقراطي ممنوعاً ويزداد امتناعاً، فهذا يوجب على من ينادون بالتغيير السلمي ابتكار ما لم نعرفه وما لم نجرّبه من أجل المواجهة، بشرط أن يكون هذا الاقتراح واقعياً وألا تكون مقابلته بوحشية مفرطةٍ مضمونةً على غرار ما حدث عام 2011. وإذا كان محتماً وواقعياً أن يُواجه أي نشاط سلمي بتلك الوحشية، وأن تستجلب الأخيرة العنف المضاد، فهذا أدعى إلى التفكير بألا يتسبب العنف المضاد بنتائج كارثية على النحو الذي عرفناه. لعل نقاشاً واقعياً، بمعنى استشراف ممكنات الواقع الحالي بلا انحيازات مسبقة أو إسقاط للرغبات على الواقع، هو الذي يكسر الحلقة المفرغة التي دارت فيها الجدالات السابقة، وهو الذي يصنع الفرق بين اللهاث وراء الوقائع عندما تأتي وبين القدرة على مواكبتها وإدارتها، إلا إذا ارتضى من يقرّون بعجزهم اليوم القبول به كقدر محتم.        

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها