الثلاثاء 2018/07/17

آخر تحديث: 09:32 (بيروت)

بإنتظار قديروف السوري

الثلاثاء 2018/07/17
بإنتظار قديروف السوري
increase حجم الخط decrease

لم تكن مصادفة أن يُنقل تحذير الرئيس التركي من انهيار مسار آستانة إذا استهدف الروس إدلب على غرار درعا، التحذير أتى ضمن اتصال بين أردوغان وبوتين وقبل ثلاثة أيام من القمة التي تجمع الأخير بترامب في هلسنكي. هذا يجعل الهواجس التركية مرتبطة بمجريات القمة أكثر من ارتباطها بما جرى في درعا، فالتخوف الرئيسي فيها عقد اتفاق "أو تفاهم عميق على الأقل" حول الملف السوري، وأي تفاهم من هذا القبيل سيحرر بوتين من الحاجة إلى التنسيق مع أردوغان، والذي كان قد بدأ منذ صفقة خروج المقاتلين من مدينة حلب.

لعل أردوغان يعرف تَوْق ترامب إلى تقديم هدية ما لبوتين، تعبّر عن إعجاب شخصي لا يخفيه، وإذ يصعب تقديم هدايا مجانية في العديد من مجالات الخلاف بين البلدين، بما في ذلك الملف الأوكراني وتبعاته الأوروبية، فإن الملف السوري هو المرشح الأوفر حظاً للمغازلة المنتظرة. الأوروبيون ليسوا في وارد الاحتجاج على تسليم كامل سوريا لبوتين، بل كان البعض منهم أسبق من ترامب بالتطبيع مع النتيجة المرتقبة، ورأينا كيف بادر الرئيس الفرنسي إلى تعيين مبعوث شخصي في سوريا! الأمريكيون الذين يخوضون مواجهة أكبر مع "قذّافية" ترامب سيتركز انتباههم على تفاصيل من اللقاء قد تعزز اتهام الروس بالتواطؤ لإنجاحه في الانتخابات، بخاصة إذا تسرّب ما يمكن اعتباره مسّاً بالأمن القومي، والملف السوري ليس من أولويات هذا الملف على العكس من أهميته لبوتين.

بوتين كان قد استبق القمة بلقاء علي أكبر ولايتي مستشار خامنئي، وبلقاء نتنياهو الذي أسس لصفقة تضمنت تسليم درعا. المهم في هذين اللقاءين أن بوتين كان يجري مفاوضات تمهيدية مع الطرفين الإسرائيلي والإيراني بصفتهما أكثر ما يهتم به ترامب في الملف السوري كله، وإذا استطاع ترتيب صفقة ما بينهما فمن المرجح أن تكون مصدر ترحيب من ترامب الذي يريد انسحاباً عاجلاً من سوريا. وكما نعلم قامت استراتيجية بوتين السورية على إرضاء القوى الإقليمية الثلاث، إسرائيل وإيران وتركيا، في انتظار نضوج التفاهم النهائي مع الإدارة الأمريكية.

تركيا لا تقع ضمن الهواجس الأمريكية سلباً أو إيجاباً، علاقة أردوغان المتعثرة بالولايات المتحدة وعموم الغرب تفقده القدرة على أن يكون عامل توازن مطلوب بين الجانبين الروسي والأمريكي. وإذا كان ترامب سيتبنى الهواجس الأمنية الإسرائيلية، وسيتمنى على بوتين تحجيم الوجود الإيراني في سوريا، فلن يكون مكترثاً بما تراه أنقرة جزءاً من أمنها القومي، إذا لم نقل أنه سيكون مستعداً لإضعاف أردوغان خارجياً في الوقت الذي أمسك فيه بكافة خيوط القوة داخلياً.

ثمة ثغرة يعرفها الجميع جاهزة لتبرير أي تفاهم، وأية مجزرة مرافقة له، هي وجود داعش أو النصرة المصنفين على لائحة الإرهاب بقرار من مجلس الأمن. لقد رأينا كيف استُخدمت ذريعة للهجوم على حلب ثم الغوطة الشرقية ثم درعا، رغم أن عدد مقاتلي النصرة "إن وجدوا" في تلك الأماكن قليل جداً، وكان ممكناً إبرام صفقة لترحيلهم بدل ترحيل الجميع وفي مقدمهم ترحيل المدنيين. ترحيل مقاتلي العديد من المناطق إلى إدلب لعبة مكشوفة أخرى، فهم دُفعوا إلى المرمى الأسهل بسبب الوجود القوي للنصرة فيها، وسهولة استهدافها لاحقاً بعدّها بؤرة الإرهاب.

ومع معرفتنا بأن الحرب على الإرهاب هي أيضاً الاسم الرمزي لإنهاء الثورة السورية، وأيضاً لتدبير الملف السوري من قبل القوى الخارجية، فالاستهداف المتوقع لإدلب يبتغي أولاً إعادتها إلى منطقة النفوذ الروسي تحت الغطاء نفسه. وهي تالياً المدخل الأنسب لنقض تفاهمات بوتين-أردوغان المصاحبة لمسار آستانة. أي أن ما يهدد به أردوغان من انهيار لذاك المسار هو ما سيسعى إليه بوتين عامداً، لأن مسار آستانة ومحاولة فرضه بديلاً عن مسار جنيف تنتفي الحاجة إليه كلما تقدّم بوتين على مسارين؛ قضم مناطق ما سُمّي خفض التصعيد، والتفاهم مع الإدارة الأمريكية مباشرة أو بوساطة إسرائيلية.

يخطئ أردوغان، ومن خلفه الفصائل وهيئات المعارضة الملتحقة به، بالظن أنه يمتلك أوراق قوة مستدامة في الملف السوري. وفي الواقع كان من مصادر قوته السيطرة على بعض الفصائل وتحويل سلاحها من أجل مواجهة الميليشيات الكردية، وعلى ذلك إضعاف تلك الميليشيات وهو هدف تتلاقى فيها المصالح التركية مع مصلحة موسكو وطهران وبشار الأسد. الركون إلى وعود، ربما يكون أردوغان قد حصل عليها من بوتين، يفنّد صوابه سلوك الأخير الذي لا يُعرف عنه الوفاء بالتزاماته. لنا أن نعيد التذكير بأن بوتين، الذي اختبر ظهر أردوغان المكشوف مع بداية تدخله وإسقاط الجيش التركي طائرة روسية، هو اليوم في موقع أقوى من قبل لأن دعاية أردوغان استثمرت الكثير في الابتعاد عن الغرب وفي التحالف مع موسكو، ولأن هامش المناورة سيتضاءل مع كل تقارب روسي-غربي.

بالطبع لن تكون إدلب نهاية المطاف، بل ستكون فاتحة للمصير الذي ينتظر مناطق أخرى واقعة تحت النفوذ التركي حالياً، بخاصة إذا شهد شهر تشرين الثاني المقبل انسحاباً أمريكياً من شرق سوريا. حينها لن يبقى من فائدة روسية لبقاء فصائل درع الفرات التي تولت قطع طريق سيطرة الميليشيات الكردية على الشمال كله، ومن المرجح جداً في حال الانسحاب الأمريكي أن تكون التفاهمات منجزة سلفاً بين موسكو والميليشيات الكردية على غرار المصالحات التي تسوّقها في باقي المناطق، حيث لا يصعب على تلك الميليشيات العودة إلى ولائها الأم بعد إنجاز مهمتها أيضاً.

إن قراءة لا تدّعي النباهة تكفي لرؤية كيف يستفيد بوتين من التناقضات الإقليمية واحدة تلو الأخرى من أجل تعزيز نفوذه، هذا يجب ألا ينطلي على أصحاب القرار المعنيين، إلا أننا في حالة شديدة الخصوصية كنا طوال الوقت أمام اتفاق جميع الفرقاء على تسهيل سياسته. الأمر لا يتعلق فقط بإيران وتركيا وإسرائيل، فالقوى الخليجية التي تضغط من أجل تحجيم إيران هي ذاتها التي تضغط أيضاً لتحجيم نفوذ أردوغان، من دون أن يكون لديها تطلعات خاصة إلى نفوذ مستقبلي في سوريا، ومن دون أن يكون لها اشتراطات تخص رحيل بشار، مع شبهات تطال أكثر من جهة خليجية حول انخراطها المباشر في الاستراتيجية الروسية.

انطلاقاً من التفاهم الأمريكي-الروسي المتجدد قد نشهد خريطة جديدة للنفوذ في المنطقة، بدءاً من سوريا، إلا أن ما يخص السوريين فيها شديد الوضوح، وهو الحل على طريقة سفاح غروزني. ليس تشاؤماً انتظار مأساة جديدة تفوق ما شهدناه مؤخراً على جبهة درعا وقبلها الغوطة، على الأقل هو ليس كذلك بالقياس إلى تفاؤل الذين ينتظرون من بوتين إتمام رياضته المفضّلة باختيار قديروف سوري.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها