الإثنين 2018/12/24

آخر تحديث: 11:20 (بيروت)

بهلوانات مكافحة الفساد

الإثنين 2018/12/24
بهلوانات مكافحة الفساد
increase حجم الخط decrease
كان مشهد التظاهرات يوم أمس حزيناً. عشرات فقط حضروا إلى وسط المدينة للاحتجاج على هذه المهزلة. وشكل الإحتجاج أيضاً منسوخ، ويؤشر إلى نوعية المشاركين. ذلك أن شعور متظاهر لبناني بالحاجة إلى ارتداء سترة صفراء، يشي بأن هذه المشاركة ليست تظاهرة، بل هي أقرب إلى تقليد موضة فرنسية دارجة هذه الأيام.

نقلت مراسلة قناة "الجديد"، وهو تلفزيون يتبنى شعار "الثورة على الطبقة السياسية"، عن بعض المحتجين أنهم "أخطأوا في الإنتخابات"، في حين قال أحدهم إنه "يُحب السيد نصر الله، لكنه لم يعد يتحمل الفساد". يُحاول هذا الرجل، ومعه المراسلة، أن يوهمنا بأن هناك صراعاً يختلج داخله بين حُب الزعيم، أكان حسن نصر الله أو سعد الحريري أو وليد جنبلاط أو نبيه بري، من جهة، وعدم القدرة على تحمّل الفساد، من جهة ثانية. هذا الصراع الداخلي، لو صح، سيبقى محسوماً لمصلحة حُبّ الزعيم والولاء له ولحزبه وعائلته وماكينته الخدماتية والإعلامية والدينية. العدد الضئيل للمتظاهرين يوم أمس، يشي بذلك.

وفقاً لما يتسرب في وسائل إعلام هذه السلطة، فإن أركان الحكم التوافقي في لبنان اتفقوا في مفاوضات بينهم بعيداً عن الإعلام، على سلسلة خطوات تقشفية بعد منح الحكومة الثقة خلال الفترة المقبلة. حان وقت تسديد الفاتورة، وتأخير الانهيار ولو لبعض شهور أو سنة. على رأس هذه الخطوات، تجميد دفع قسم من سلسلة الرتب والرواتب، وهي لا بد أن تتسبب بتظاهرات واحتجاجات خلال الفترة المقبلة.

لكن هناك فولكلورية في الإحتجاج، من الصعب أن تُترجم إلى حراك سياسي جديد. وليس السبب أن هناك خواءً ايديولوجياً، أو خوفاً من قوة السلاح والقمع. الأرجح أن العامل المقرر في استحالة الحراك المعارض، هو تعميم الفساد. نجح القادة السياسيون في تعميم الفساد ونشره على أوسع نطاق. حتى إن كُنت موظفاً حكومياً نزيهاً في أي قطاع (وجميعها مشمولة بالفساد دون استثناء)، ستحصل على تقديمات لا مثيل لها في أوروبا والولايات المتحدة، مثل الطبابة والتعليم المجاني لك وللعائلة، وراتب تقاعدي يبدأ في بعض القطاعات في الثلاثينات من عمرك. كيف تثور على الطبقة الحاكمة، في ظل هذه التقديمات الخيالية، علماً أن راتبك الشهري يزداد دورياً؟ الأرجح أن الموظف الحكومي لن يحتج. وهذا عامل أساسي. الحكومة تُوظف أكثر من 300 ألف، أي ما بين ربع وثلث الطبقة العاملة. هذه إبرة مُخدر تُضاف إليها تحويلات المغتربين، وهي غير مرتبطة بالاقتصاد المحلي المشلول والمنخور بالفساد.

ما زال اللبنانيون كُتلاً متراصة في طوائفهم وأحزابهم الفئوية، ولن يخرجوا منها، وأي تحليل عكس ذلك، يُجانب الوقائع الآنية والتاريخية. إعلامهم جزء من السُلطة، ولو ادعى عكس ذلك. في زفاف ابنة صاحب قناة "الجديد" قبل شهور، حضرت الطبقة السياسية بأسرها مع عائلاتها ورجال أعمالهم. هذه الصداقات جزء من لا جدية التغطية الإعلامية وحركاتها المصطنعة. وهي تنطبق على بعض السياسيين "المستقلين" مثل زياد بارود الذي تفاجأنا به لبرهة من الزمن متحالفاً مع "التيار الوطني". كما تداولت وسائل الاعلام أن جواد عدرا، مرشح التسوية لوزارة بلا حقيبة، "مستقل"، ويُمثل حالة الإعتراض على الواقع القائم. لكنه في الآن ذاته يتمتع بعلاقة "ممتازة" مع كل الأطراف السياسية اللبنانية. كيف يتوافق الاعتراض والمعارضة مع "العلاقة الممتازة"؟ وهل يُسمي هؤلاء الزعماء أصحاب الأنا المتضخمة، من يعترض على سلطتهم؟

نعيش في سجن كبير يخال فيه معظم السُجناء أنهم سجّانون. والإنهيار المالي المرتقب لن تواكبه حالة احتجاجية حقيقية، بل بعض الإستعراضات، ريثما تتوافر ظروف عودة الميليشيات وسطوتها. ما بين حكم هذه الطبقة الفاسدة، وعودة الميليشيات، فراغ لا تملؤه بهلوانات من الصنف الذي رأيناه يوم أمس.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها