الجمعة 2014/09/05

آخر تحديث: 21:28 (بيروت)

من أين جاؤوا؟

الجمعة 2014/09/05
increase حجم الخط decrease
باتت الأحاديث عن العنف الذي تمارسه جماعات إسلامية متشددة في المنطقة محطة مركزية لكل لقاء بين مواطنين حتى لو كان لقاء عابراً بين متحادثين لا تمتد معرفة بعضهم ببعض لأبعد من لحظة تصادف وجودهم في ذات المكان. وقد لا يخلو حديث منها من التساؤل المفتوح على الاستغراب أو الاستهجان أو صعوبة التصديق: من أين جاء هؤلاء التكفيريون الذين يتباهون بالرؤوس المقطوعة وبأعداد من ينفذون فيهم فعل القتل؟؟ تساؤل يضمر غالبا إجابة مشتهاة يتوسّلها المتحدث. إجابة تنفي عن الجماعة التي يشعر بالانتماء إليها أي قرابة، أو ارتباط، أو معرفة بهم.

الشيخ المسلم يقول هؤلاء لا يمثلون الدين الحنيف. الموالي للنظام يقول إنهم غزاة من بلدان أخرى. الرئيس الأميركي ينعتهم بالسرطان في ما يمكن اعتباره إشارة منه إلى كونهم، مثل هذا المرض، مجهولي الأصل.... الجميع يتبرأون من اللوثة، وإن كانوا (السياسيون منهم) في الحقيقة يتلمّظون، خلف أقنعتهم التطهريّة، استساغةً للحلوى التي ترميها هذه الجماعات العنيفة فوق أطباق مصالحهم.

لكن، إن كان كل هؤلاء يتبرأون من ظاهرة العنف فمن أين جاءت هذه إذن؟ أتراها انبثقت من العدم كما انبثقت أثينا من عقل زيوس أم هي ثمرة طبيعية لمعطيات تشارك متبرّئو اليوم في صنعها أمس؟

في البدء هناك الأرضية الثقافية التي تحمل بذور العنف. فالدين، وهنا الدين الإسلامي خاصة الذي يشكل المكوّن الثقافي الأكثر تأثيرا وحضورا، لا ينفي العنف والغلبة والشدة. وربما بالقدر ذاته الذي لا ينفي فيه التسامح والسلم والمحبة. فالنص القرآني لا يخلو من الدعوات إلى القتل "اقتلوهم حيث ثقفتموهم"، والتعذيب "ضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدّوا الوثاق"، والتمثيل "أن يقتّلوا أو يصلّبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف".... أما التاريخ الإسلامي فحكايات العنف فيه، بدءا من السيرة النبوية وحتى نهاية الخلافة الإسلامية في مطالع القرن العشرين، تتجاور مع حكايات التسامح، بل وتزيد عليها أحيانا.

إن وجود العنف في المرجعيات المؤسِسة للثقافة الدينية يشرعنه حتما، ولا يعارض بالتالي ممارسته إذا ما وُجد المناخ المؤاتي لذلك. وفي هنا تقوم الرابطة بين ما هو ديني في العقيدة وما هو دنيوي في السياسة. العقيدة ترمي البذار والسياسة توفّر لها ظروف الإنتاش. فنظام الاستبداد لم يقم بما يسمح بتحييد الثقافة الدينية، بل على العكس قوّاها ومكّنها، مراءاةً أو تدليساً وربما غباءً. لن نكرر هنا ما صار معروفا من غزل النظام للثقافة الإسلامية بشتى طبقاتها حتى الجهادية التي جعل لها موقعا متقدما في البلاد تنشر منه وتنتشر. لكن هذه لم تكن "الخدمة" الوحيدة التي يقدمها النظام للتشدد. فهو باستخدامه المفرط، بل قل الأسطوري، للعنفِ أيقظ العنفَ المرَوّض في نفوس المتدينين ودفعهم دفعا إلى تفعيله في ما أصبح، في نظرهم، بمثابة صراع للدفاع عن الوجود.

رد الفعل هذا على عنف النظام لا يختلف، في جوهره وفي آليات بروزه، عن ارتكاس المتدينين والأصوليين على ممارسات الغربيين في بعض القضايا ذات التأثير العميق في حياتهم. فالظلم الذي عانته ولا تزال تعانيه بعض الشعوب ذات الأغلبية المسلمة من أفغانستان إلى العراق وبشكل خاص في فلسطين حيث تنتهك إسرائيل حقوق الإنسان نهارا جهارا بلا حسيب ولا رقيب، لا يمكنها إلا أن تثير حفيظة المتدينين وتدفعهم إلى الميل نحو الطرف العنيف من مرجعياتهم الثقافية.

إن الثقافة الدينية ليست عنيفة بالمطلق، ولا رحيمة بالمطلق. لكنها إن حظيت بسياسة دنيوية ديمقراطية رحيمة وعاقلة، صارت رحيمة وتعقّلت، وإن تعثّرت بسياسات استبدادية واستكبارية صارت استبدادية وأطلقت العنف الكامن فيها. لذا فالسؤال الصحيح أمام ظاهرة التكفيريين المجرمين ليس: "مِن أين جاؤوا؟" وإنما "مَن جدّ واجتهد حتى يظهروا؟"
increase حجم الخط decrease