السبت 2014/03/15

آخر تحديث: 01:31 (بيروت)

ومع ذلك.. فهي تثور

السبت 2014/03/15
increase حجم الخط decrease
 تدخل سوريا عامها الرابع ثورة. "العمر كله" كما نقول احتفاءً بميلاد مجيد. في البدء تماحكنا وتناظرنا وتعاركنا حول شرعية التسمية. أهي ثورة؟ أم انتفاضة؟ أم حراك ثوري؟ أم حرب أهلية؟ أم مؤامرة كونية؟ إلى ما هنالك من تسميات أطلقها بعضنا، ونحن منهم، تأسيساً على إرادوية تمتنع عن إسقاط المشتهى على أحداث لا تشي بحضوره، وأطلقها بعضنا الآخر تبخيساً لفعل تغيير مذهل لم يدخل ضمن تخوم خيالاته وتصوّراته، وأطلقها بعضنا الثالث تهرّباً من ضريبة ما كان لها إلا أن تُستحق طال الزمان أو قصر، وأطلقها آخر رابع تخوّفاً من اهتزاز بنية نفعية تشرنق فيها وبات كل من يشير إليها بالنقد خائناً وعميلاً و"برغياً" في آلة المؤامرة المحاكة على وطن تقزّم حتى تطابق مع جسد نظام مشوّه خارج التاريخ..
تعددت الأحكام والواقع واحد.
والواقع هو أن ما كان انتهى، وأن شيئاً جديدا أتٍ لا محالة.

انتهت حقبة جعلت من السوريين كائنات خائفة ترتجف إن حلمت بحرية. انتهى زمن تختزل فيه مواطنية المواطن إلى التصفيق والرقص والتهريج احتفاءً بشعاراتٍ مقعّرة فُرّغت من كل محتوى وغدت إشارة حسّية لإطلاق منعكس الثغاء الجمعي الجدير بقطيع. انتهى عهد الفرجة، حيث بات المواطن متفرّجاً على الفساد باسم القانون، وعلى التسلّط باسم الدستور، وعلى القمع باسم حماية الأمن، وعلى الخراب باسم التطوير والتحديث.

انتهى ذاك الزمن ودخلت البلاد في مخاض التغيير. ويا له من مخاض عزّ نظيره في حكايات الشعوب الحبلى بالشوق إلى الحرية والمسكونة برجاء القيامة. يا لها من جلجلة يقف إزاءها التاريخ مشدوهاً، منقطع الأنفاس. يا لها من ملحمة تقف البشرية دونها خجلة من نفسها، مسربلة بالعار.

لم يكن المخاض كرنفالاً يحتفي بفرح الشعوب الطفلي وهي تتلبّس الجديد. ولم يكن تنويعاً، بنسخة سورية، لسردية انتفاضة لشعب مقهور يستيقظ نحو خلاصه. لكنه كان النموذج الفريد لأمرين اثنين: شيطانية النظام ومأساة الشعب.

تمثّلت شيطانية النظام في إصراره على حفر هاوية بلا قرار تجذب، كثقب أسود، كل ما يتفاعل في المحيط، بما في ذلك النظام أيضاً. كأن لسان حاله يقول: لن أسقط وحدي، بل سأسقِط الكل معي. إن كانت النهاية فلا أحد سينجو. وإن كان ثمة ناجون، ولو محطّمين، فسأكون بينهم، محطّماً مثلهم، أو ربما أقلّ. شيطانية اختزلها شعار "الأسد أو لا أحد".

وتمثلت مأساة الشعب في ما لحقه من خراب روحي واجتماعي وحضاري، لكن أيضاً في حَيرته أمام ما انتهت إليه شيطانية النظام. وثمة عناوين كثيرة لهذه الحيرة: من أين جاءت تلك الوحشية التي عصفت بكل ما كان يميزنا من رحمة وكياسة؟ كيف لنا أن نعيد بناء نسيج وجودنا المشترك؟ أين المخرج ونحن نرفض ظلم النظام ولا نريد ظلامية التشدّد الديني؟ ثم من نحن في نهاية المطاف؟ هل سنعود مواطنين في بلد له اسم وهوية وتاريخ أم سنستفيق على حال نكتشف فيه أن كل ما ظنناه لم يكن سوى وهم، وأننا أسرى لأوهام؟ 

ربما تكمن عبقرية المخاض هنا تحديداً، أي في طرحه لأسئلة لا حلّ لها في بقاء الحال القديم، وفي وعده القاطع بجديد لا يترك مجالاً لشك
بقدومه، حتى لو لم يرسم ملامح هذا القادم الجديد. في هذه السيرورة من القديم المنتهي نحو القادم المبتدئ ترتسم حياة الثورة.

سمّوها ما شئتم، انتقدوها كما أحببتم، اخدعوها، راودوها، تحايلوا عليها، احفروا الأرض تحت أقدامها، لوّنوها، العنوها، افعلوا ما شئتم.. فهي، وبمحاكاة لما قاله غاليليو غاليليه لمرهبيه: ومع ذلك فهي تثور. هي باقية، وهي أصلاً لم تبدأ إلا لتبقى حتى تصل إلى ما يريده أهلها: حياة كريمة بلا ظلم ولا ظلامية. 

سوريا تدخل عامها الرابع ثورة.. كل عام وأنت بخير يا وطني. 
 
increase حجم الخط decrease