الخميس 2013/09/26

آخر تحديث: 20:26 (بيروت)

ثم يأتي "العبث"

الخميس 2013/09/26
increase حجم الخط decrease
 مرت الأحداث التي عرفتها سورية منذ آذار 2011 عبر منعرجات ومنعطفات عديدة نقلت البلاد من حالة الاستبداد السياسي الشمولي الذي تمارسه دولة مستقرة بقوة الأمن والقمع، إلى حالة تنذر باستبداد ثقافي شامل في ظل دولة فاشلة يتحكم بها أمراء حرب ناشئون، من جهة، وبقايا مافيات موروثة، من جهة أخرى.

تشكّل هذه الأحداث مادة فريدة للباحثين الذين درسوها أو سيدرسونها، كل حسب اختصاصه الفكري والعلمي وحسب المناهج والنظريات والأدوات التي سيستثمرها في بحثه. ولا شك أن رفوف المكتبات ستحمل، وهي قد بدأت فعلاً بذلك، كمّاً من الأعمال التي ستعكس بتنوعها الطبيعة المعقدة أصلاً للأحداث.

وإذا ما قامت تلك الأعمال بمقاربة ما يجري في سورية من منظور أدبي يعتمد على نظرية الأجناس، فأغلب الظن أنها ستتوقف عند عتبات ثلاث، تشرِف منها على ثلاث مراحل متتابعة من الحكاية السورية منذ نقطة بدايتها وحتى ما آلت إليه اليوم. 
1- العتبة الأولى تطلّ على مرحلة يمكن وصفها بالمرحلة الملحمية. تتمثل هذه المرحلة بالشجاعة الفريدة التي أبدتها جموع من السوريين كسرت قمقم الخوف، وقامت بمظاهرات واعتصامات للمطالبة بالحرية، متحدية آلة القتل المسلطة عليها من كل صوب. في المشهد الملحمي تبرز بطولة الأفراد وهم يحققون أعمالاً تُسبغ عليها صفات العظمة والإعجاز، كما تبرز المبالغات الرقمية التي تُضخّم أعداد المشاركين بالفعل الملحمي لتخلق لدى المتلقي مشاعر الإعجاب والانبهار.  
في هذه المرحلة تحوّلت الانتفاضة إلى ثورة شعبية لها، من جهة، سماتها المشتركة مع أي ثورة في العالم، ولها، من جهة أخرى، سماتها الخاصة التي فرضتها ظروف سورية والإقليم والشرط التاريخي.

2- العتبة الثانية هي التي تنظر إلى المرحلة التي يمكن وصفها بالمرحلة التراجيدية. تميّز هذه المرحلة بشكل خاص ديناميكية مأزقية دخلت فيها الثورة، من حيث لا ترغب، في حرب داخلية. في هذه المرحلة تعسكرت الثورة بسبب الخيار الأمني للنظام من جهة، وبسبب انفتاح الأرض السورية أمام وباء التطرف الجهادي من جهة ثانية. في المشهد التراجيدي، يبدو الوضع الذي وُجِد فيه الحراك وضعاً بدون مخرج. وتبدو الشخصيات المشاركة في الفعل التراجيدي بمثابة أبطال يؤدون واجبهم وهم مرغمون على التعايش مع فكرة الموت المحتمل. في هذا السياق، تظهر الصفات الثلاث التي تميز البطل التراجيدي: الشجاعة والإقدام أولاً، التضحية والفداء كرمى القيم السامية ثانياً، والنقاء الأخلاقي الذي يدفع به إلى خوض حرب يعرف بكامل وعيه أنها حرب بلا مخرج ثالثاً.

3- العتبة الثالثة هي التي تنفتح على مشهد الخراب والموت والحزن العميم، إنها المرحلة المأساوية بامتياز. في هذه المرحلة تتلاشى البنية التراجيدية التي تضع الفاعلين أمام مصير لا يطمحون إليه لكن لا مفر منه. ويتحول الأفراد إلى شخصيات تقوم بحربها بقناعاتها وبكامل حريتها ووعيها. الموت في هذه المرحلة ليس احتمالاً غير مستحب بل يصبح فعلاً مطلوباً، يصبح قتلاً تسمو دلالته طرداً مع درجة الوحشية المتبعة في تطبيقه. والقيم الأخلاقية تتلاشى لصالح حسابات الحرب. هنا، لا ينتهي مصير بطل المأساة إلى القدر الذي كتبته عليه قوة ذات إرادة خارجة عن إرادته، بل يصبح هو فاعلاً ومشاركاً وصانعاً لقدره وقدر الأرض التي يحارب عليها. ويمثل هذه المرحلة في الواقع تواجد كتائب، موزعة بين أطراف الصراع، مقاتلة مرتزقة استؤجرت، أو دُعيت، أو أُرسلت، أو نُقلت... لا تهم تسمية الفعل بل ما يهم هو الفعل نفسه: كتائب موجودة على أرض الوطن لوضع اللمسات الأخيرة على المأساة.

في مرحلة قادمة، وبعد أن ينجزوا المأساة، سيجلس المتقاتلون منهكين متسولين للحل المجهز سلفاً. عندها، إن بقي لدى بعضهم شيء من الضمير، سينظرون إلى أرض الخراب ويتساءلون في قرارة أنفسهم: لم فعلنا كل ذلك؟ عندها تبدأ مرحلة العبث.
 
increase حجم الخط decrease