الأحد 2013/10/27

آخر تحديث: 03:04 (بيروت)

ما الخيار الآخر إن رفضنا جنيف -2

الأحد 2013/10/27
increase حجم الخط decrease
 رفض المجلس العسكري الأعلى للجيش السوري الحر، وقبله المجلس الوطني السوري، الجلوس إلى طاولة التفاوض مع من "تلطخت أيديهم بدماء السوريين"، وقال في بيان له إن بإمكان مؤتمر جنيف-2 أن "يذهب إلى الجحيم" في حال لم يأخذ المجتمع الدولي موقفاً حاسماً يرقى إلى تضحيات ومعاناة الشعب السوري.

شخصياً أعتقد أن كلا الهيئتين محقة من حيث المبدأ في رفض الحوار مع القتلة. دم السوريين الذين قضوا تحت القصف والقنص والتعذيب، ودموع المهجرين. المفقودون والمعتقلون والذين فقدوا بيوتهم وأرزاقهم بسبب سلوك النظام السوري الفاشي واستمراره في سياسة القمع والقتل والحصار والتجويع، كل ذلك يجعل مِن الجلوس إلى طاولة واحدة مع القتلة أمراً مثيراً للحزن والجزع.

بيد أن السؤال هو: ما الذي يمكن فعله إن لم نذهب إلى جنيف؟ 
لنلق نظرة سريعة على الوضع السوري الراهن. لقد فقد السوريون، رسمياً، نحو 125 ألف قتيلاً من المدنيين، وثمة إحصاءات غير رسمية تضاعف هذا الرقم. وثمة من المفقودين عدد مواز لعدد الشهداء. وجرح أكثر من أربعمائة ألف سوري، وهجر خمسة ملايين داخل سوريا وفي دول الجوار. ودمرت البنية التحتية وهدم الاقتصاد السوري. وقلص الناتج المحلي الإجمالي إلى 50%، بينما ارتفع التضخم بنحو 200%، وتدنت نسبة البطالة إلى 50% في أحسن أحوالها، ويقدر أكثر المحللين تفاؤلاً أن سوريا بحاجة إلى عقود لتستعيد عافيتها. واليوم يفتقد السوريون المأوى والمدرسة والكهرباء والمياه النظيفة، وهم مقبلون على شتاء قاس آخر من دون وقود للتدفئة.

إلى ذلك، أصيبت الثورة السورية بوباء المنظمات الإسلامية الراديكالية التي تهيمن اليوم على الجزء الأكبر من الأراضي السورية الواقعة تحت قبضة المعارضة، وتحتل معظم أراضي حلب وإدلب وكامل مساحة الرقة وجزءا من دير الزور، وتحاول الامتداد إلى شمال حمص وريف دمشق. تفرض هذه المنظمات بقوة السلاح نمطاً غريباً عن الثقافة السورية وديناً مختلفاً عن تدين الشارع السوري الوسطي والمعتدل عموماً. وجاءت حوادث الإساءة إلى الكنائس وإنزال الصلبان من على أعلى الكنائس و رميها باستهتار لتزيد من حدة غضب الشارع السوري وإحساسه بالإهانة.

ولا تتورع هذه التنظيمات عن قتل واعتقال وتهجير معارضيها كما يفعل النظام تماماً. وقد كانت وراء رحيل مثقفين ومفكرين سوريين من منطقة الرقة، أو اضطرارهم إلى التخفي، بمن فيهم سعاد نوفل التي شكلت ظاهرة في محافظه الرقة، عندما قامت باعتصام يومي أمام مقرّ داعش في قلب مدينة الرقة مدة شهرين، قبل أن تتعرض لإطلاق النار، واضطرت إلى التخفي.

وتتراجع مقدرات الجيش الحر باستمرار أمام استفحال قوة التنظيمات الإسلامية المتشددة التي لا تقاتل النظام، بل توجه كل وقتها وقوتها لتأسيسي دولة  ظلامية في شمال البلاد، معطية بذلك سبباً إضافياً للنظام الذي يفكر بتقسيم البلاد.

وتراجع الدعم الدولي لقضية السوريين بعد مهزلة السلاح الكيماوي، التي انتصر فيها الجميع باستثناء السوريين أنفسهم، ويبدو أن الولايات المتحدة ومعها الدول الغربية الأخرى قد ألغت من أجندتها نهائياً فكرة توجيه ضربة عسكرية للنظام السوري، ولا يوجد تسليح حقيقي للمعارضة السورية يمكنها من مواجهة آلة حرب النظام المدعومة من لواء أبو الفضل العباس العراقي وحزب الله اللبناني وخبرة الحرس الثوري الإيراني وأموال إيران ونوري المالكي التي تدعم صمود الليرة السورية وتمنعها من الانهيار. وانتهى إلى أمد بعيد النشاط الاحتجاجي السلمي الذي ميز الثورة في أشهرها الأولى.

فإذا كانت هذه هي الحال، فما هو البديل أمام المعارضة السورية للذهاب إلى جنيف؟ لا يكفي للمعارضة أن تقول إن الشعب يريد ذلك، ولا يمكن التحجج إذن بـ "إرادة الشعب" وبأن الشعب السوري لن يقبل الجلوس إلى طاولة واحدة مع القتلة. لا أحد استشار الشعب، ولا أحد يعرف بالضبط ما الذي يريده السوريون المحاصرون اليوم في المعضمية أو غوطة دمشق أو حرستا أو حمص القديمة. لا أحد يعرف بالضبط ما الذي تريده الأمهات القابعات في البيوت، يمتن في كل لحظة فرقا على أبنائهم عندما يغادرون بيوتهم ولا يعرفون إن كانوا سيعودون مساء أم لا. لا أحد سال تلك الصبية التي أصابتها رصاصة في شوارع القصاع إن كانت تؤيد الحوار أم لا. ولا أحد استفسر من ذلك العجوز الذي قضى بمتفجرة مزروعة في حاوية للقمامة، في دمشق القديمة إن كان يفضل العيش على الموت أم الحرب على السلام.
أوافق الجيش الحر وكل المعارضين على موقفهم ب"عدم الجلوس على طاولة واحدة مع القتلة"، ولكن خلوَّهم من حل آخر يجعل هذا الحل المر أفضل الموجود أو اقله سوءا.

ليس بإمكان أحد أن يجازف بما تبقى من سوريا. المزيد من القتال في سوريا يعني المزيد من الانتصارات للنظام السوري ولداعش وشركائها في الشمال. السوري العادي الذي يشبهني ويشبه الكثير من القراء سوف يفقد المزيد من حظوظه في البقاء وحصوله على حصة من الطعام والكهرباء والانترنت. 

ليس جنيف 2 انتصاراً للثورة السورية، ولكنه أفضل من موت السوريين وتدمير بلادهم. وإذا أدى الاجتماع في النهاية إلى تشكيل هيئة حكومية انتقالية بصلاحيات تنفيذية كاملة عبر التوافق المشترك، وإلى رحيل الأسد وأعوانه المقربين الملطخة أيديهم بالدماء، فسيكون في ذلك تعويض لسوريين الذين خرجوا إلى الشوارع مطالبين بالعدالة والمساواة والكرامة، وإن يكُن تعويضاً بسيطاً جداً.
من واجب المعارضة التي فشلت حتى الآن في تفهم ما يريده السوريون، وارتكبت كل خطأ سياسي ممكن في سياساتها الداخلية والإقليمية والدولية، أن تنتبه إلى الواقع  قبل فوات الأوان.
 
increase حجم الخط decrease