الأربعاء 2024/04/10

آخر تحديث: 21:05 (بيروت)

مسلسل "جودر": الفن الحقيقي أذكى من الرقيب

الأربعاء 2024/04/10
مسلسل "جودر": الفن الحقيقي أذكى من الرقيب
مسلسل "جودر" المأخوذ عن "ألف ليلة وليلة".. ينتصر خارج معركة المنافسة مع الإنتاج التركي
increase حجم الخط decrease
يمثل الإنتاج الدرامي التركي، الذي بدأ يغزو الفضائيات العربية منذ 2008، ما يشبه العقدة لـ"الشركة المتحدة للإعلام"، التي لا تراه مثالاً للاحتذاء وإنما خصماً تجب هزيمته.

هذا الصراع لم يقده التوتر السياسي بين البلدين منذ 2013 فقط، وإنما أيضاً التاريخ الاستعماري القمعي الذي سعت تركيا إلى تبييض صفحته عبر الفن، وكذلك الإمكانية الاقتصادية التي تترجمها مداخيل التوزيع المرتفعة وزيادة الجذب السياحي، فضلاً عن القدرة على تصدير المنتج الثقافي المحلي للخارج.

وتلك العقدة المكبوتة لا تحتاج إلى تصريح، وإنما يبصرها على الشاشة المتلقي العادي من خلال الصورة التي يظهر عليها زميله المواطن الأقل عادية منه، والمعدم أحياناً، الذي يسكن بيتاً ربما لا يملك ربع قيمته الإيجارية، أو يعيش في حارة شعبية بينما يضطجع على أثاث يشبه ما حازته الطبقة الوسطى الميسورة في الأربعينيات، ويهندم ديكوراته بألوان استقاها من سينما ويس أندرسن.. 

وتظهر تلك العقدة أيضاً في النقاش "الشعوبي" المستعر عن استخدام اللهجة المصرية في مسلسل "الحشاشين" بدلاً من العربية الفصيحة؛ أم وجوب أن يتحدث حسن بن الصباح السورية، وفقاً لما يقوله المواطن الغيور على وطنيته ساخراً من دبلجة الدراما التركية، ليتفه بشكل مدروس من جدية أي نقاش يثار حول القيمة الفنية للعمل، ويضع المنتقد في خانة من يتنكر لقوميته.

هذه العقدة أو ذلك الصراع، يلزمهما بالطبع إنتاجاً لا يقل ضخامة عن نظيره التركي، بل يجب أن يتفوق عليه، فتنفق "المتحدة" المهيمنة على سوق الإنتاج المصري، المرئي والمسموع والمقروء، بيد شديدة السخاء على نصوص متواضعة القيمة، لأن الفن الجيد مهمته طرح الأسئلة، والأسئلة بالضرورة تهدد السلطة التي تتبعها الشركة المملوكة بشكل أو بآخر لـجهاز المخابرات. لكن أحياناً، وكأي ذراع قمعي، تفلت من بين أصابعه أشياء ثمينة، عن قصد أو من دونه، مثل مسلسل "جودر" المأخوذ عن "ألف ليلة وليلة"، الذي شارك أخيراً في الموسم الرمضاني. وذلك ليس لأنه عمل ذو طابع سياسي معارض، وإنما متقن الصنع ويستحق المذاع منه حتى الآن كل ما رصد له من ميزانية ضخمة.

لماذا "جودر"؟
تحكي قصة جودر، بحسب طبعة "الليالي" عن مكتبة بولاق التي حققها الشيخ محمد قطة العدوي، وتقع بين الليلة 606 والليلة 624، عن أخ يخونه شقيقاه بدلاً من المرة الواحدة، أربع مرات، حتى ينتهي الأمر بأن يقتله أحدهما، والحكاية في هذا القالب تبدو مثالية كنموذج تحب "المتحدة" تقديمه على الشاشة، حيث يظهر الغلابة يأكلون بعضهم بعضاً، لأن الشر، بالطبع، يكمن في المواطن لا في النظام. لكن تلك القيمة ليست ما أراد المؤلف أنور عبد المغيث والمخرج إسلام خيري، تصديره عن عملهما، وإنما صاغ الاثنان نصاً يهتم في المقام الأول بإبراز القيمة الفنية لـ"الليالي" بمثل اهتمامه بإمتاع المتلقي. نصّ يقدّر آخر فيعامله بالجدية الواجبة.

يسير المسلسل في خطين سرديين متوازيين؛ حكاية إطار ترصد علاقة شهريار بشهرزاد، وأخرى داخلية هي قصة الصياد جودر بن عمر المصري، وهو في ذلك يعد الأول بين كمّ ضخم من دراما مرئية ومسموعة استوحت محتواها عن ألف ليلة وليلة، الذي يخلص للكتاب بتناول القصة الإطار ضمن متنه. فرغم أن "ألف ليلة وليلة" التي أنتجت في العام 1984، سبقته نوعاً ما في ذلك، فإن الأخيرة لجأت إلى حيلة فانتزاية أعادت بطلته عبر آلة الزمن لتؤدي دور شهرزاد، فصنعت من خلالها مسلكاً درامياً لعلاقتها بالملك المغدور.

وبالرغم من أن أنور عبد المغيث لم يلتزم بقصة جودر الصياد، التي تضم أحداثاً أخرى مختلفة عما ظهر على الشاشة، فإنه استعملها كإطار استوعب حكاية متماسكة لبطل امتزجت سيرته بمصائر أبطال "الليالي" الآخرين، مثل قصة مدينة النحاس التي استعان بها من الليلة السادسة، وكأنه صار في هذه الحالة شهرزاد التي تلد الحدوتة من رحم الأخرى من دون أن تحيد عن الخط الرئيسي للسرد.

لا ينشغل الكاتب الحقيقي بالنقل الحرفي عند الاقتباس، وإنما يحاور العمل الأصلي من أجل افتراض زاوية جديدة لتأمله، أو يهدمه ليبدع سردية تقابل سرديته. لكن يبقى لاختيار جودر دون غيره من أبطال الليالي الآخرين، رمزية دالة، تنبئ بفهم عميق لأزمة شهريار المتعلق بأمّه في هيئة شهرزاد. ففي القصة المختارة، حتى وإن منعت صعوبة تناولها من ظهورها على الشاشة، يضطر جودر الى قتل أمه رمزياً، بعد أن يجبر جنية تتمثل صورتها على التعري لفكه طلسم الكنز، ورغم فشله في الصمود أمام طقس التعري، فإنه يعود لتكرار المحاولة وينجح في المرة الثانية، وربما لهذا السبب تأتي القصة شاذة عن نمط السرد العام "لليالي"، فلا خير ينتصر فيها أو شر، يموت جودر ويموت أخواه وتطويهم شهرزاد إلى ما بعدهم من حكايات.

وإن كان النص الذي استطاع مبدعه أن يصنع من حواره المعتمد مزجاً رشيقاً بين الفصحى البسيطة واللهجة المصرية، عالماً لغوياً يستوعب عصره البدائي ويخاطب آخر متقدماً، فإنه ليس علامة التفوق الوحيدة للمسلسل الذي استغل مخرجه إسلام خيري مفرداته جميعاً لصياغة عالم سحري حيوي قادر على التواصل مع متلقٍّ يألف الليالي أو يشاهد عملاً مقتبساً عنها للمرة الأولى.

تتبدى إمكانات خيري بداية من الاختيار الذكي للممثلين، مروراً بضبط حركتهم داخل الكادر، والإيقاع السردي السريع لأحداث يضرها المط، والانتقال الزمني السلس بين السنين، وانتهاء باستخدامه الموفق للمؤثرات البصرية التي جاءت مقبولة إلى حد كبير، فيعيد إلى المتلقي القيمة الأهم في أي عمل فني: الإمتاع. قبل التوجيه أو الوعظ؛ التثوير أو النضال. وهي قيمة لا يدركها أبداً عمل متواضع القيمة.

والسؤال هنا، لماذا قد يمر عمل متقن عبر قبضة رقيب يفضحه الإتقان في العمل أكثر من أي شيء آخر؟ الإجابة أيضاً واضحة مثل الفضيحة: الفنان الحقيقي دائماً أذكى من الرقيب.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها