الثلاثاء 2024/03/19

آخر تحديث: 17:19 (بيروت)

مسلسل "الحشاشين": أي حسن صباح بقي هنا؟

الثلاثاء 2024/03/19
مسلسل "الحشاشين": أي حسن صباح بقي هنا؟
increase حجم الخط decrease
لا يكتب التاريخَ منتصرٌ أو مهزومٌ، إنما يدونه وعي مرهون بلحظة توثيقه، ويقرأه كذلك وعي مرهون بلحظة تلقيه، وكل إعادة لكتابة التاريخ، أو كل استعادة لأحداث الماضي، إنما يصيغها ويستقبلها وعي العصر الذي استعيدت فيه. هكذا، ليس هناك موضع لمحاكمة عمل فني استقى من الأمس حكايته وخالفها، أو افترض سردية جديدة لمجريات الأحداث فيها، لأنه صار وثيقة عن الحاضر.

فيلم "الناصر صلاح الدين"، مثلاً، وثيقة عن وعي ستينيات القرن العشرين، و"المصير" وثيقة عن تسعينياته، وليسا وثيقتين عن بعض أحداث القرن الحادي عشر التي وقعت في القاهرة أو الأندلس، رغم ذلك فإن أي كتابة/قراءة لذلك الوعي الحاضر تختل من دون مقاربته بما سلف، وتجعل منه مجرد فرضية جديدة استخدمت التاريخ فانتقت أو حذفت أو أضافت أو أبدلت من دون أن تنتج وعياً جديداً جديراً بالتأمل، كما تفقدها شرط الجودة الفنية الذي يصنع منها حواراً يسائل الحدث والمتلقي على السواء.

وتلك مقدمة ضرورية، لا يفرضها فقط الجدل المثار حول المسلسل الرمضاني "الحشاشين"، من إنتاج "الشركة المتحدة"، وتأليف عبد الرحيم كمال وإخراج بيتر ميمي، بل يفرضها أيضاً سؤال تركه حسن بن الصباح (يؤدي دوره كريم عبد العزيز) معلقاً فوق جدران سجنه في الحلقة السابعة من المسلسل، حين كتب بالفارسية: "حسن الصباح سكن هنا"، فأي حسن هذا الذي بقي هناك؟

سيرة لنبي يسود وأخرى لمناضل هارب
من الضروري التأكيد أن ثمة سرديتين لسيرة الحسن. إحداهما صاغها الرحالة الإيطالي ماركو بولو، المولود بعد رحيل بن الصباح بـ130 سنة، بعين النخبة الأوروبية التي كانت على صِدام مع الكنيسة في عصورها الوسطى، فجعل من حكاية الزعيم الشيعي عبرة على أن الدين هو الخطر الداهم الذي يواجه العالم، وأن له تأثيراً سالباً للعقل والإرادة، فرفع حسن إلى مصاف الأنبياء وجعل من المؤمنين به بيادق شطرنج مستعدة لفدائه ودعوته بأرواحهم.

في حكاية بولو، يصاحب حسن منذ صباه الوزير نظام الملك والشاعر عمر الخيام، ويخاصمهما حد الاقتتال كهلاً. وفي حكاية الرحالة الإيطالي أيضاً يصنع "النبي الشيعي" جوار معقله في قلعة "آلاموت" فردوساً من حدائق وأعناب وأنهار حليب وخمر يحمل إليها فدائييه منومين بعد إطعامهم القنب (الحشيش)، ويسحبهم منها منومين بالمثل بعد تنعيمهم فيها لبضعة أيام، قبل أن يعدهم بالخلود فيها إن نفذوا أوامره.


أما الحكاية الأخرى، الأقرب إلى الواقع الجغرافي والتاريخي، فتستند إلى دراسات تاريخية وفكرية، أبرزها كتاب "الكامل في التاريخ" لابن الأثير، ودراسة بعنوان "حركة الحشاشين" للدكتور محمد عثمان الخشت، بالإضافة إلى دائرة المعارف والأعلام الشيعية، وكتاب "روح الإرهاب" لجان بودريار بترجمة بدر الدين عرودكي.

وبموجبها، ولد بن الصباح، بعد أبي علي الطوسي (نظام الملك) بنحو عشرين سنة، من دون ذكر لصداقة جمعته بالخيام الذي كان مقارباً لعمره، وأنه يتحدر لأسرة من الشيعة الإثني عشرية، ظل على مذهبها حتى بلوغه السابعة عشرة، قبل أن ينجذب للإسماعيلية الباطنية فينضم إليها كداعية في عشرينياته، ثم يلتحق بعدها بوظيفة في ديوان ملكشاه، جعلته على علاقة طيبة به وبوزيره نظام الملك.

أما هروبه من الري إلى أصفهان ثم القاهرة، فجاء خوفاً من تضييق رئيس بلدته على نشاطه الدعوي من جهة، وعملاً بنصيحة داعي دعاة الباطنية، عبد الملك بن عطاش، حتى يستكمل رحلته الروحية التي كانت الخلافة الفاطمية ركناً رئيساً فيها. واستغرقت تلك الرحلة نحو عامين، حاز خلالهما بن الصباح شهرة وعلماً بين أبناء مذهبه الجديد في أصفهان وصيدا وعكا ودمشق وغيرها من مدن كثيرة زارها في طريقه إلى القاهرة، التي خرج داعي دعاتها "أبو داوود" شخصياً لاستقباله بنفسه، قبل أن يدعوه المستنصر إلى قصره ويقربه منه.


قضى بن الصباح في القاهرة بين عام ونصف العام، إلى ثلاثة أعوام، حاز خلالها موقعاً بارزاً في ديوان الخليفة الفاطمي، الذي صرح له بأن ابنه نزار هو الخليفة من بعده، وبسبب ذلك القرب وذلك التشيع لنزار، وقع صدام بين الوزير بدر الجمالي وحسن، انتهى بنفي الأخير إلى المغرب، فعاد إلى أصفهان بعد رحلة مثيرة، وظل يمارس دعوته فيها سراً لمدة تسع سنوات، خشية أن يفتك به نظام يكنّ عداءً شديداً للدعوة الباطنية ويقتل دعاتها ويمثل في جثثهم. وهو الخوف الذي أدى إلى أولى عمليات الاغتيال السياسي التي نفذتها الحركة، ضد مؤذن دعوه إلى مذهبهم وأبى، فقتلوه خشية الوشاية، وهي واقعة لفتت أنظار النظام إليه وجعلت الصدام بينهما حتمياً، ودفعت بحسن ورفقائه إلى قلاع الجبل.

في تلك القصة، لم تكن هناك أية فراديس لصعوبة الحياة في قلعة "آلاموت"، التي كان يزورها الثلج ستة أشهر في السنة، ولم يكن هناك قنب يأكله الجنود، وإنما حشائش الأرض التي اضطروا لتناولها في فترات الحصار الشديد. وظل بن الصباح زعيماً دينياً على جيش من الفدائيين أرهب الدولة وتفوق عليها في كثير من الأحيان، لأنه نجح في أن يجعل "من موتهم سلاحاً مطلقاً ضد نظام يعيش على استبعاد الموت". فمع امتلاكه جيشاً مماثلاً لما يمتلكه النظام، كان يتفوق عليه بسلاح آخر حاسم: موتهم. ولو أنه اكتفى بمقاتلة النظام بأسلحته فقط لقُضي عليهم فوراً. ولو أنه لم يواجه إلا بموتهم لتلاشوا بسرعة مماثلة، لكنه جمع الإثنين: الجيش، وسلاح الموت الرمزي الذي يضاعف الطاقة المدمرة إلى ما لا نهاية.

مَن الحسن بن الصباح؟
والسؤال الرئيس هنا هو: من هو "حسن" الذي اختاره صنّاع مسلسل "الحشاشين"، كي يصيغوا وثيقة عن حاضرهم المعاصر من خلال قصته؟

مَن شاهد المعروض من المسلسل الذي تجاوز نصفه، ربما يفشل في الإجابة عن السؤال، لأن المؤلف عبد الرحيم كمال لم يكن مشغولاً من سيرة الزعيم الشيعي بغير التاريخ الدموي الذي صاحب دعوته، والتنظيم السري الذي أنشأه لينال من هيبة الدولة، من دون أن يقدم فهماً واضحاً لشخصية بطله أو الظروف المجتمعية والسياسية التي عايشها. كان كمال، ومعه المخرج بيتر ميمي، مثل قطار لا يرى من مسيرته غير محطة الوصول، فيغذي السير إليها متغاضياً عن كل المدن التي يجب أن يتوقف فيها كي يصعد الركاب أو ينزلوا.

لهذا، لم تكن قصة ماركو بولو وحدها تكفيه، رغم أنها تحقق الغاية أو التكليف الذي ألقاه الرئيس السيسي على عاتقه قبل ثلاثة أعوام، حين طالبه بتقديم فن هادف ينبه الناس إلى ما يدبره لهم "أهل الشر". فقصة الرحالة الإيطالي الخرافية ستبدو وحدها رمزية أكثر من اللازم، بينما لا يحتاج عبد الرحيم ورفاقه إلى التجريد.

ربما فضل كمال اختيار قصة الصداقة المنتحلة واستكمال الناقص فيها عشوائياً من التاريخ، لأنها قريبة الشبه بسيناريو مماثل سبق له النجاح، لثلاثة أصدقاء، أحدهم دَولَجي فاسد، والثاني راديكالي انتهازي، والأخير مثالي حالم، قدمهم السيناريست الراحل وحيد حامد والمخرج شريف عرفة في فيلم "طيور الظلام". لكن حامد استطاع أن يخلق لكل شخصية من شخصياته الثلاث سياقاً واضحاً يتطور فيه وينضج، بحيث تصير له غاية محددة يسعى من أجلها، فما غاية حسن الصباح أو نظام الملك أو عمر الخيام في "الحشاشين"؟

حدد كمال غايته ونسي أبطاله، إلى درجة بدا معها تهديد بن الصباح لبدر الجمالي في الحلقة الثالثة، بثورة ثلاثمئة داعية، هزلية. فمتى أصبح لحسن كل هؤلاء الدعاة؟ وأين؟ إضافة إلى عدد مريدي كل واحد منهم؟ لا يهم، المهم أن ينتهي المسلسل بعبرة يلقيها على الجمهور: يا معشر الناس، لا تصدقوا مَن ينتقد الدولة باسم الدين، فهو شيطان لا يريد إلا خرابها، وأن الجيش وحده، هو القادر على ردعه، حيث لم تظهر أي شرطة نظامية في أي مدينة داستها قدم بن الصباح، باستثناء جنود الجيش المتناثرين في كل شبر منها.

في الجهل والتجهيل وما يناسب أم كلثوم
ومثل كمال، استسهل بقية صنّاع العمل أدوارهم، بداية من اختيار تتر المقدمة، مروراً باختيار الممثلين وتنفيذ مشاهد الأحداث.

ولا يخفى على قارئ للأدب، أن أحمد رامي ترجم رباعيات الخيام من لغة وسيطة، وليست أصلية، واضطر أن يضيف إليها من لغته وأوزانه كي تصبح صالحة لتغنيها أم كلثوم، وهذا ليس عيباً بالمناسبة. لكن ما علاقة "سمعت صوتاً هاتفاً في السحر/ نادى من الغيب غفاة البشر/ هبوا املأوا كأس المنى/ قبل أن تملأ كأس العمر كف القدر".. بعمل غايته التحذير من خطر مستتر؟ هذا نص يدعو المتلقي للإقبال على الحياة والاغتنام من مباهجها قبل أن يدركه قطار العمر ويموت، ولا يغير من معناه حشرجة صوت وائل الفشني، ولا الموسيقى المثيرة التي أضافها إليه أمين أبو حافة.

الحكم الأخلاقي أمر يخرج عن دائرة كل من الباحث والأديب على السواء، لكن صنّاع "الحشاشين" يصمون بطلهم منذ الحلقة الأولى بفساد السريرة، حين يفضل الظلام على النور، وإن أمكن عزو اختيار تتر المسلسل إلى غياب المعرفة والحس الفني، فإن ما تضمنته أحداثه من إشارات مبتسرة لمعارف بن الصباح، لا يمكن تفسيره من باب الجهل وإنما القصد في التجهيل. فالفرقة الباطنية، التي يُترك اسمها من دون تفسير واضح، لا يمنح إلا فهماً سلبياً لمعناه اللغوي الذي يشير إلى كل ما هو مستتر، رغم أنه مفهوم فلسفي يفسر إيمان أصحابه بوجود معنيَين للشيء ذاته، واحد ظاهر والآخر باطن هو الأولى بالتأويل والبحث.

ويستمر التجهيل في استعراض باقي معارف البطل، الذي يبدو في موقف حاذق وذكي، يستخدم العلم لتحقيق أغراضه الخبيثة. وفي آخَر، أقرب إلى ساحر أو مشعوذ يستخدم الطلاسم للتأثير في غيره، خصوصاً ما يتعلق بتعامله مع الرموز والحروف والأرقام التي تدخل ضمن الدائرة الفلسفية للمذهب، والتي جاءت أولى الإشارات إليها في حوار على لسان جدته خلال الحلقة الأولى، وكأن أهله باطنيو المنشأ على خلاف الحقيقة.

محاولة بائسة لاستنساخ يوسف شاهين
والحال أن "فزاعة" الشيعة، تكفي وحدها لإخافة المُشاهد المصري السنّي، الذي لا يحتاج في ظَن صنّاع المسلسل إلى دراما مقنعة، وربما جاءت الصورة فقيرة لذلك السبب أيضاً، ابتداءً من إسناد دور شاعر مثل عمر الخيام إلى ممثل لا يستطيع إلقاء الشعر أو يحسن مخارج ألفاظه مثل نيقولا معوض، أو إسناد دور البطولة لكريم عبد العزيز، الذي لم يبذل أي مجهود ليعكس الاضطراب النفسي داخل الحسن ذي الوجهين الظاهر والباطن، إلا امتلاء جسده بحيث يتشابه وهيئة الفنان الراحل نور الشريف حينما أدى شخصية ابن رشد في فيلم "المصير"، الذي يبدو أن بيتر ميمي مشغول باستنساخ تقنية مخرجه يوسف شاهين في صياغة الحوار، أكثر من أي تقنية أخرى امتلكها المبدع الراحل.

لا عيب في تفضيل استخدام اللهجة العامية على العربية الفصحى، وهو أمر يجب ألا ينتقص من قيمة أي عمل فني، بل ربما يضيف إليه، مثلما استطاع الشاعران فؤاد حداد وعبد الرحمن الأبنودي أن يضيفا إلى ديوان الشعر العربي. وإنما العيب في أن يمتلك عمل فني حواراً ركيكاً ومباشراً، بغض النظر عن لهجته، مثلما هو الحال في مسلسل "الحشاشين"، الذي لم يتحرج مخرجه من اقتباس المشهد تلو الآخر من نصوص سينمائية ودرامية راسخة. فانتحل مشهد مطاردة زيد بن سيحون في الحلقة الأولى، من مشهد مطاردة علاء الدين في فيلم التحريك الذي أنتجته "ديزني"، ومشهد نجاة السفينة من فيلم "The Jesus Film"، وعشاء أسرة ملك شاه من الحلقة الأشهر " The Rains of Castamere" من مسلسل "صراع العروش".

وثيقة الحشاشين
مازال فيلم "الناصر صلاح الدين" يُعرض، ويستطيع المتلقي العادي تجاوز النبرة القومية الزاعقة فيه لأنها استنفدت أغراضها، من دون أن يفقد استمتاعه بباقي أحداث الفيلم. وكذلك يفعل مُشاهد "الأيدي الناعمة" الذي لن يكترث بنقمة ضباط 1952 على النظام الملكي، ففي قصة الفيلم ما هو أعمق من مجرد استخفاف نظام بما قبله. ويمكن للمشاهد أيضاً أن يستقبلهما كوثيقة تاريخية عن عصر إنتاجهما. لكن ماذا سيتبقى لمتفرج يفتح الشاشة على "الحشاشين" اليوم أو غداً، إن جرَّده من غرضه السياسي؟ ربما الشيء الوحيد الذي استطاع المسلسل تمثيله بجدارة هو أن يصير وثيقة عن وعي عصره، وثيقة عن تواضع القيمة.


increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها