تايلور سويفت... "عميلة" لا تهتم بالسياسة

واليوم يتم تصويب سهام تلك النظرية نحو شخصيات شهيرة أبرزهن النجمة تايلور سويفت، التي بلغت ذروة شعبيتها العام الماضي، إلى حد إصدار تقارير وكتابات من نخب إعلامية وسياسية أميركية عن ضرورة الاستعانة بها من أجل حث الشباب على التصويت في الانتخابات المقبلة ضمن بلاد مقسمة أكثر من أي وقت مضى على جانبي الحزبين الديموقراطي والجمهوري. إلى حد اتهامها من إعلاميين ومنظرين جمهوريين وآخرين يميلون لليمين المتطرف، بالعمالة لوزارة الدفاع "بنتاغون" الذي يعتبر سبب نجاحها، أو ممارسة السحر الأسود وطقوس شيطانية في حفلاتها.

والمذهل أن تلك النظريات لطالما كانت حاضرة، شرقاً وغرباً، طوال سنوات وتطاول أسماء أخرى، مثل النجمة مادونا التي كانت أغنيتها "فروزن" تُدرس في مقرر السنة الرابعة بكلية الإعلام بجامعة دمشق قبل سنوات، كدليل على تغلغل الماسونية في السياسة الأميركية وتحكمها بالمشاهير الذين ينشرون الأفكار والمعتقدات "الشريرة"، مع وجود طيف واسع من الشائعات التي لا تنتهي عن أسماء مثل مايكل جاكسون على سبيل المثال، للإشارة إلى ضخ المعتقدات الغريبة من أجل السيطرة على الشعوب ثقافياً.

على أن مصدر تلك النظريات يبقى واحداً ومتجذراً في معتقدات دينية متطرفة ومحافظة بالدرجة الأولى، بشكل يُترجم إلى خطاب ديماغوجي قائم على الخوف ونشره. فالـ"الذعر الشيطاني" كان يحذر من عبادة الشيطان في وجه المسيحية مع تراجع قيم التدين عالمياً في تلك الفترة بحسب إحصاءات "منظمة القيم العالمية"، خصوصاً في الدول الغربية، باستثناء الولايات المتحدة. وأنصار "كي أنون" يرددون منذ العام 2017 أن التوتر السياسي في أميركا حالياً هو جزء من حرب سماوية ستقرب من "يوم الحساب" الذي سيلقى فيه القبض على شخصيات بارزة، من أمثال مرشحة الرئاسة السابقة هيلاري كلينتون، وستُعدَم.

ورغم أن استهداف سويفت بذلك الخطاب اليوم ليس مفاجئاً لأن النجمة (34 عاماً) هي الأشهر في الكوكب حالياً، إلا أنه غريب من ناحية أن سويفت لا تتحدث أصلاً في السياسة ولا تخوض فيها إلا نادراً ومؤخراً فقط، حتى أنها واجهت انتقادات شديدة من الديموقراطيين لعدم تقديم دعمها العلني لهيلاري كلينتون في مواجهة دونالد ترامب العام 2016، حيث كانت المغنية شديدة الحذر في خسارة شريحة واسعة من الريفيين والمحافظين الأميركيين الذين يميلون للجمهوريين تاريخياً، ويشكلون أصلاً شريحة واسعة من جمهورها.

وبدأت سويفت المتحدرة من ولاية تينيسي الريفية، مسيرتها الفنية بموسيقى الكانتري المحببة الى قلوب المحافظين الأميركيين، ودمجت ذلك النمط بموسيقى البوب قليلاً. وبقيت محافظة على مسافة بينها وبين النقاشات العامة، بعكس نجمات البوب الأشهر في العقود السابقة من مادونا إلى بريتني سبيرز وكريستينا أغيليرا ومايلي سايرس، ممن كن يخضن في السياسة والنقاشات حول مواضيع اجتماعية وقانونية من دعم المثليين إلى علاج الإيدز والحروب الأميركية في الخارج وحريات النساء والإجهاض وغيرها.

بالتالي فإن استهداف سويفت اليوم هو جزء من مخاوف جمهورية ويمينية من خسارة الانتخابات وتعكس مشهد الاستقطاب في الولايات المتحدة والتوتر السياسي والثقافي هناك، لا أكثر. كما أن الاعتماد على شهرة سويفت التي تحظى بشعبية تقدر بـ70% من الأميركيين، رغم أنه من غير الواضح إن كانت تريد أصلاً دعم بايدن من عدمه. ولا يتعلق الموضوع بصعود اليمين المتطرف كردّ فعل على وجود الديموقراطيين في السلطة مثلاً، أو كحركة مضادة لليرالبية السائدة في وسائل الإعلام وهوليوود. بل تكشف النقاشات الحاضرة في المجتمعات الغربية منذ أكثر من عقد، أن الكثير من تلك المجتمعات يضم أصواتاً محافظة ذكورية ورجعية لم تكتم نفسها بقدر ما وجدت في مواقع التواصل والإنترنت مساحة للبروز وبث أفكار سامة. ويظهر ذلك في الولايات المتحدة أكثر من دول أوروبية كفرنسا على سبيل المثال، بسبب حقيقة انتشار ورعاية التدين في المجتمع الأميركي حيث ترتفع مستويات التدين مقارنة بأي دولة غربية أخرى، بحسب إحصائيات نشرتها مجلة "فورين أفيرز".

وانتشرت كتابات مؤخراً عن ضرورة الاستعانة بسويفت من أجل هزيمة المرشح الجمهوري دونالد ترامب في الانتخابات المقبلة، علماً أن سويفت خرجت عن تحفظها السياسي للمرة الأولى العام 2018، وساندت مرشحاً ديموقراطياً في ولايتها تينيسي. وفي العام 2020، أعلنت سويفت رسمياً دعمها للرئيس الحالي جو بايدن في مواجهة ترامب، واتهمت الرئيس الجمهوري السابق بأنه "أجج نيران تفوّق البِيض والعنصرية طوال فترة ولايته"، كما تحدثت في العام 2022 بشكل مقتضب عن معارضتها لإلغاء الضمانات الدستورية للحق في الإجهاض.

بخلاف ذلك، لا تقدم سويفت شيئاً بقدر ما هي بعيدة عن إثارة أي صدمة بصرية كانت أم موسيقية، وتغني عموماً ليس عن علاقاتها العاطفية بل عن انفصالاتها عن الرجال الذين تواعدهم، وتقدم سرداً قصصياً ضمن ألبوماتها القائمة أساساً على الموسيقى الريفية التي يتم مزجها بأنماط أخرى أحياناً مثل البوب. وتعتبر النساء والمراهقات تحديداً الفئة الأوسع من جمهورها، ما جعلها تتحول بشكل ما إلى أيقونة نسوية، حتى مع ابتعادها عن التصريحات السياسية والاجتماعية عموماً، وعن الحديث عن أي شيء لا علاقة له بحياتها الشخصية الضيقة.

ويمكن فهم شعبية سويفت بين النساء والمحافظين بإلقاء نظرة على خطاب شهير ألقته النجمة العالمية مادونا العام 2016 عند تلقيها جائزة "امرأة العام" من مجلة "بيلبورد"، تحدثت فيه عن معنى أن تكون امرأة تعمل ضمن صناعة الموسيقى العالمية، خصوصاً بالنسبة لها، هي التي تحدت السيستم الذكوري والديني والسياسي السائد. ولخصت مادونا، التي مازالت حتى اليوم الفنانة الأكثر مبيعاً على الإطلاق، الفارق بين الرجال والنساء ضمن المهنة الذي أدركته مطلع التسعينيات عندما تم وصفها بأنها الشيطان نفسه لإصدارها ألبومها "أيروتيكا"، لأن النساء يجب عليهن الالتزام بالقواعد: "من المسموح لك أن تكوني جميلة ولطيفة وجذابة جنسياً، لكن لا تكوني ذكية، لا تمتلكي رأياً. أو على الأقل لا تمتلكي رأياً معاكساً للسائد ... كوني ما يريد الرجال أن تكونيه. والأهم كوني نسخة عما يجعل النساء مرتاحات مع أنفسهن عندما يشاهدونك مع الرجال".

هذا الوصف بالتحديد يلخص النجاح الهائل لسويفت في السنوات الأخيرة، على المستوى الثقافي، ومن قبلها مغنيات برزن وسطعن منذ العام 2010، أبرزهن البريطانية أديل التي تبدو آتية من حقبة كانت النساء فيها مجبرات على الاحتشام والخضوع، إلى حد إجراء مقارنات بينهن وبين أبرز الأسماء التي غيرت معنى الموسيقى في العقود الأخيرة من مايكل جاكسون إلى دايفيد بوي مروراً بمادونا وبريتني سبيرز وكريستينا أغيليرا.

وفيما قد يكون ذلك الحكم قاسياً إلا أنه لا يعني عدم امتلاك سويفت والأسماء المعاصرة المماثلة لها للموهبة أو الكفاءة للنجاح، بقدر ما يعني وضع تلك الموهبة في سياق اجتماعي وسياسي أوسع، فوجود سويفت البعيدة من الجدل والسياسة والنشاط الاجتماعي والمكتفية بأغانٍ مبنية على تجارب شديدة الشخصية فقط، يعبّر عن جيل مختلف عن جيل الثمانينيات والتسعينيات ومطلع الألفية، عندما كانت موسيقى البوب الأكثر نجاحاً تضج بالرسائل السياسية والاجتماعية بتناولها مواضيع غير مريحة بصرياً وعلى صعيد الكلمات ايضاً، من العنصرية وسطوة الدين (مادونا، مايكل جاكسون) إلى المثلية الجنسية (كريستينا أغيليرا) وحرية الجسد (بريتني سبيرز) وغيرها.

كل ذلك مفقود تماماً في موسيقى البوب المعاصرة التي تعتبر سويفت وجهاً لها، وتعبّر عن جيل لا يكترث بالسياسة كما يظهر بوضوح في أرقام الأفراد الذين يمتنعون عن المشاركة في الانتخابات في الدول الديموقراطية والتي تبلغ أرقاماً قياسية عاماً بعد عام، مع تغيير في طريقة صناعة الموسيقى وتوزيعها بالاعتماد على مواقع التواصل، تحديداً "تيك توك" حيث مقاطع الفيديو القصيرة، ما يجعل موسيقى البوب الحالية شديدة التكرار وقائمة على خلق لازمة موسيقية (Hook) تبنى الأغاني حالياً حولها من أجل تقديمها في مواقع التواصل كـ"ميمز" من أجل تحقيق الانتشار، وتلك الخاصية بالتحديد تجعل الأغاني قصيرة ومتشابهة ولا تتمايز عن بعضها بعضاً مثلما ينبغي لموسيقى البوب أن تكون، وذلك محزن حقاً.

ومن المثير للاهتمام أن هناك تغييراً في المزاج الموسيقي العام منذ العام 2010 تقريباً، مع صعود الراب كنمط موسيقي سائد لا يتصدر فقط مواقع التواصل وقوائم الأغاني بفضل أسماء مثل "درايك" و"نيكي ميناج" على سبيل المثال، بل يتحدى القيم الاجتماعية والدينية السائدة مثلما كانت موسيقى البوب تفعل لعقود، وتبرز هنا أسماء مثل "ليل ناس"، الذي غنّى مع مادونا نفسها، وبات يتحدى مفاهيم الجندرة والميول الجنسية أيضاً بشكل كانت موسيقى الراب بعيدة منه، وهو ما أشار له نجوم بوب بارزون مثل الأميركي أدم لامبرت الذي كان أول مغن مثلي يصرح علناً بميوله الجنسية، يتصدر قوائم "بيلبورد" الشهيرة العام 2012 عن ألبومه "Trespassing".

وفيما تُرسم صورة براقة لسويفت من ناحية تحديها لشركات الإنتاج عبر صداماتها معهم بشأن حقوق الملكية الفكرية إلى حد إعادة إصدارها ألبوماتها السابقة مؤخراً، إلا أن سويفت نفسها باتت المحدد لمعنى الإنتاج نفسه في عصر السوشال ميديا والبث الرقمي، والذي يسعى آخرون لتحديه والهرب منه، خصوصاً عندما يرتبط ذلك النموذج بملايين المعجبين المخلصين الذين ينشرون نمطاً ساماً من الترهيب ضد كل من ينتقد نجمتهم أو يعبر عن ملله من رتابة أغانيها بتهم جاهزة أبرزها وأخطرها "كراهية النساء"، بالطريقة نفسها التي تُرفع بها المشانق أمام من لا يحب فيروز في العالم العربي مثلاً.