الأحد 2023/07/02

آخر تحديث: 02:14 (بيروت)

عَرَق ومُكيّف وفلاسفة

الأحد 2023/07/02
عَرَق ومُكيّف وفلاسفة
اللوحة للفنان اللبناني حسن جوني
increase حجم الخط decrease
"كتاب حياتي يا عين.. الفرح فيه سطرين والباقي كله عذاب".
تصدح لازمة الأغنية من راديو سيارة الأجرة التي استقليتها للانتقال من حي إلى حي، داخل بيروت.

كان يوماً حاراً، جداً. فوجئت بوجود مكيف داخل السيارة المخلخلة القديمة. كادت فرحتي تخرج عن إطارها العادي، من مسام جسمي الذي يعاني القيظ. نظرت إلى السائق نظرة امتنان، وكأنه سريعاً، فهم سر فرحتي. عدّل من جلسته وغمزني من المرآة الأمامية، وقال بكل فخر: "ايه دموازيل أهم شي عندي التكييف.. يهرّ الموتير أو يخلص البنزين، لكن المهم في تكييف".

يا شحارك يا نسرينن قلت في سرّين شو يخلص البنزين ويهر الموتير.. مجنون شكله هيدا؟ ابتلعت كلماتي وقلت موافقة:
"نعم! نعم التكييف حلو وضروري، كي نتحمل جميعاً هذا الوضع الصعب".
- "أيوا، كمان ريحة العرق مقرفة بالصيف، والله يا دموازيل أنا حياتي كلها عذاب مثل ما بغني هالمغني، بس التكييف غيّر لي حياتي".

أدرت وجهي إلى اليمين في إشارة مني لإنهاء الحديث عند هذا الحد. فلا أدري بعد التطرق إلى موضوع العرَق، إلى أين ممكن أن نصل! وطبعاً كانت رغبتي كالأحلام، رغبة في ألا يتكلم مجدداً. أشار بإصبعه إلى مستودعات الزبالة في الخارج، تتدفق منها على الطرق أكياس بكل الألوان، بقايا طعام، ثياب ممزقة. ينحني شاب مُدخلاً رأسه داخل المجمع، يبحث عن القناني البلاستيكية لجمعها وبيعها لاحقاً. أصبح هذا المشهد مكرراً ومعتاداً، جداً، في المناطق اللبنانية كافة. لا مستودع زبالة وحيداً، بل دائماً يلتصق به رجل، رأسه في الداخل، وباقي جسده في مكان آخر.

أحاول التفكير ِفي ما يفكره هذا الكائن، في لحظة نبشه للنفايات. وهل يفرح للحظات عندما يجد ما يبحث عنه؟ هل أصبح الإنسان امتداداً للنفايات؟

"ما رأيك دموازيل بما قلت؟"، قطع السائق تفكيري: "مش حرام يصير هيك بهالبلد!"

في لحظتها، أردت أن أشاركه فكرتي عن علاقة الإنسان بالأشياء، وكيف أصبحت هذه المشاهد جزءاً من الجماد المحيط بنا، اندمجت في الحيز العام والخاص، انصهرت في مرامي الأنظار وفكّكها الاعتياد واليأس أو حتى اللامبالاة. لم تعد هذه المشاهد، المفترض أنها مؤلمة واستثنائية تحرك فينا ساكناً. عبَّرتُ، ما استطعت، في محاولة لطيفة، لأُشعره بأننا نتشارك الهموم نفسها.

"عفواً دموازيل ما فهمت شي، شو بتشتغلي حضرتك؟ كأنك فيلسوفة!"

شعرتُ بنبرة السخرية في جُملته. تخيلت ابتسامته الهازئة إن عرف أني كاتبة، وأن روايتي الأولى كانت عن المهمّشين. كتبتها بقلم "باركر" فاخر، مع تكييف، كما أتذكر. أنا أيضاً أكره بشدة رائحة العرق، وأحب التكييف والكيف -مثلك- داخل صناديق لا تفوح منها رائحة النفايات... ولا تناقض هنا. إنها الحياة. أو هي بلادنا فقط. لا فرق، ربما.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب