السبت 2023/04/29

آخر تحديث: 15:35 (بيروت)

دفاعاً عن نساء OnlyFans

السبت 2023/04/29
دفاعاً عن نساء OnlyFans
رسم: سونمي (عن موقع Vox)
increase حجم الخط decrease
استوقفني منشورٌ في مواقع التواصل يزعم أن منصّة OnlyFans هي "دليل على أن النساء لا يمانعن تسليع أنفسهن ما دمن يتقاضين أجراً لقاء ذلك". ولمَن لا يعرف "أونلي فانز"، هي منصّة لتداول المحتوى الرقميّ المدفوع. ورغم أنها قد أُطلقت في بادئ الأمر لمشاركة أعمال الفنانين وصورهم لقاء رسم اشتراك شهري، الا أنها تحوّلت بفعل سياق استخدامها الى تطبيق لبيع وشراء الصور ومقاطع الفيديو الإباحية مقابل المال.

في النتيجة، شرَعت نساء كثيرات بجني المال عبر هذه المنصّة، بل ربما الأموال الطائلة التي لا تضاهيها رواتب الوظائف التقليدية، وهذا من دون الحاجة لخروجهن من غرفهنّ حتى. وقد أدّت هذه الطفرة الى إعادة فتح النقاش القديم حول اشكالية تسليع (أو تشييء) المرأة، لكنّه اتخذ هذه المرّة منعطفاً مثيراً للاهتمام؛ فالمسؤول هنا والمتهم بتشييء النساء- وبالتالي اضطهادهن- ليس الرجل أو المجتمع البطريركي، وإنّما النساء أنفسهن.

بين استعراض الجسد واستلاب الذات
هي ليست المرّة الأولى التي يُستخدم فيها مفهوم التسليع كذريعةٍ لتقييد جسد المرأة وحريّتها. وقد تمّ استثماره سابقاً في محاولات فرض الوصاية على جسد المرأة تحت مسمّيات تحرّرية زائفة (دعاة النسوية الإسلامية وتشبيهات "الحلوى" المكشوفة مثالاً).

ما زلنا نتحدّث هنا عن التسليع بوصفه رمزيّاً أكثر منه ماديّاً، أي استثمار النساء في مظهرهن وجنسانيتهنّ بشكلٍ غير مباشر لتحقيق مكاسب وامتيازات معيّنة، ليست بالضرورة ماديّة. أمّا وقد اتّخذ هذا "التسليع" بُعداً مادّياً صريحاً، وأمسى المال غايته الرئيسية، فهنا ينتفض المجتمع بحاله. إذ لم يعد جسد المرأة يقتصر على كونه "سلعة" فحسب، بل هو سلعة تعود بالمال على صاحبتها؟! يا للهول!

إنّ تلك السهولة في جني المال عبر قنواتٍ "بديلة" غير متاحة للذكور المغايرين جنسياً، سبّبت استياءً في صفوفهم. لكنّ الأهمّ من ذلك، هو أنها دفعت بالنساء أنفسهن الى إعادة التفكير في إشكاليّة التشييء.. وما يتشعّب عنها من مفاهيمٍ مرتبطة بالاستقلالية والحرية والاستغلال والعبودية الخ.

باختصار، وضعت ظاهرة "أونلي فانز"، النساء، لا سيّما غير الراضيات منهنّ عن مستوى معيشتهنّ، أمام سؤال محيّر: هل نسلك طريق جني المال السهل والسريع، والذي يؤمّن في الوقت نفسه الاستقلالية المادية وحرّية التصرف بوقتنا؟ أم نستمرّ في بيع قوّة عملنا في وظائف تلتهم وقتنا وتقضم طاقاتنا، حتى أنها تبتر أرواحنا؟

خرافة التسليع الذاتي
لطالما استُخدم جسد المرأة كعامل جذب في عالم الترفيه، وذلك في حدود متفاوتة تبدأ باختيار وجه جميل لإذاعة الأخبار، وتنتهي بالعريّ الكامل والأفلام الـx-rated. يمكن حتى التجرؤ على المبالغة والقول إن قطاع الصناعة البصرية يقوم أساساً على أجساد النساء، وفوقها.

لكن المفارقة أن المستفيد الأساسي من العُريّ، في تلك الصيغة التقليدية، هو القطاع نفسه، بما فيه من شركات إنتاج ورعاة ومستثمرين ومخرجين وممثلين- أكثرهم من الذكور.. إلى أن يصل الدور أخيراً لصاحبات تلك الأجساد. ونعلم أيضاً أن هذه الأجساد قد استُغلّت وانتُهكت بشكل ممنهج وعلى مدى عقود (حراك Me Too وفضيحة هارفي واينستين وغيرهما).

حرّرت نساء "أونلي فانز" أجسادهن من احتكار رجال الأعمال و"القوّادين". وانتقلن الى نموذجٍ يسمح لهنّ أن يقرّرن بأنفسهن حدود وشُروط العُريّ، بوصفه خدمة تقدّمنها، مثلها مثل أي خدمةٍ أخرى أو حتى عمل، وهنّ اللواتي يتقاضين ثمنها. وتشير الاحصاءات الى تزعزع قطاع الصناعة البورنوغرافية أمام هذه الصيغة الجديدة التي تسمح للمستخدم بالتفاعل مع مقدّمة الخدمة- محادثتها والاستحصال على اهتمامها- أي الشعور أنّه يتعامل مع شخص، لا مع "شيء" أو سلعة. والملفت في هذه الخدمة التي أضحت الأكثر رواجاً في عالم البورنوغرافيا اليوم هو أنها تقدّم المحتوى الأقلّ إباحيةً والأعلى سعراً.

شئنا أم أبَينا، لا يمكن إنكار القيمة الاقتصادية لجسد المرأة؛ وهذا ذُنب المستهلك.. فحبّذا لو يعيرنا صمته. أمّا المعالجة النسوية لهذه الإشكاليّة، فيمكن أن تسلك مسارين متعاكسين. الأول يتجسّد في التصدي لمحاولات تسخير جسد المرأة في خدمة النظرة الذكرية. والثاني يبحث عن كيفية تسخير هذه النظرة لصالح المرأة ومنفعتها الاقتصادية، وهو توجّه يحصد اليوم مناصرين كثر. وليس في أي من المقاربتين، بالرغم من تناقضهما الظاهر، انتقاص من مبادئ النسوية. فالمسألة في نهاية الأمر، "خيار" شخصي؛ كما هو حال قضايا النساء بالعموم.

مهلاً.. مَن السلعة؟
لندع الجنس والجنسانية جانباً، ولنتحدّث إذاً عن أزمات سوق العمل وما يمارسه من استلاب لذوات العمّال، وليس فقط أجسادهم. فإنّ أي انتقاد لخيارات المرأة العملية، لا بدّ أن يسبقه نقاش حول واقع ومفهوم العمل، والمنفعة المرجوّة منه، بعيداً من الخرافات الرأسمالية من قبيل "تحقيق الذات"، و"تطوّر المجتمع".

إن نقاشاً من هذا النوع لا يستثني الذكور قطعاً. فنحن سواسية أمام مطحنة النظام الرأسمالي التي تُردينا سلعاً رخيصة ومُستلبة في سوق العمل. ومن المضحك أن يتظاهر الموظفون التقليديون -أسرى المكاتب وأهواء أصحاب العمل- أنهم ذوو إرادة حرّة، وأن شروط عبوديتهم تؤمّن لهم الشعور بالإنجاز.

قبل أن ينتفض المجتمع للدفاع عن حرمة الأجساد النسائية، فليعالج مسألة التحرّش في مكان العمل. وقبل أن يُشهر سيفه ضدّ تسليع النساء، من الأجدى له أن يلتفت إلى الأزمات التي تعيشها الذكورة، والتي لا تلتمس اللذة الجنسية مقابل المال فحسب، بل أيضاً الاهتمام والاعتراف.

فلو نظرنا بصورة أعمق الى نموذج "أونلي فانز"، حيث تشكّل رغبة الذّكَر ونزعته الفيتيشية مجرّد وسيلة المرأة لبلوغ غاية في نفسها (بالدرجة الأولى المال)، لَتَبيَّن أن السلعة المُعدّة للبيع والاستثمار هنا، ليست جسد المرأة حقّاً، وإنما رغبة الذّكَر وما تعانيه من نقص.
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها