الثلاثاء 2023/04/25

آخر تحديث: 14:45 (بيروت)

أحلامي الزرقاء

الثلاثاء 2023/04/25
أحلامي الزرقاء
"حلم" مارك شاغال
increase حجم الخط decrease
ـ1ـ
أقود سيارتي ببطء شديد، في هذه العتمة الحالكة، أثبّت يديّ على المقود، أعمدة الإنارة تبثّ نوراً خافتاً من الجهتين. نور يضيء بعض تقاسيم وجهي التعبة، المنعكسة في المرآة الأمامية. أُطيل النظر في المرآة الصغيرة، أنسى أين أنا. أتخيل نفسي وحيدة في هذا العالم. أقضي ما تبقّى من حياتي داخل هذه السيارة الصغيرة، "كوكسينيل" بيضاء قديمة يكاد جسمي يخرج من حدود مجسمها الضئيل.

ـ2ـ
أجلس على كنبة زرقاء، قماشها من المخمل السميك، في غرفة يتدرج طلاء جدرانها بكل ألوان الأزرق. أزرق غامق فوق رأسي تماماً، يبدو ثقيلاً جداً. على عكس الأزرق السماوي تحت قدمي. غريب لماذا عكست الألوان! تشتدّ الزرقة فوق رأسي، تكاد تقع على لساني المتدلي عطشاً. أحلم بقطرة ماء. أنسى أين أنا. تدور بي الكنبة فيصبح التلفار "التركواز" قبالتي. يبث مقاطع من فيلم قديم. يا للعجب! مشاهد ترقص بالأزرق على شاشة لا تقرأ الألوان. أصرخ دافنة رأسي الثقيل داخل الكنبة: من قال إن الأزرق للصبيان فقط؟!

ـ3ـ
توقفت سيارتي آخر هذه الطريق الوعرة. لا أعلم إن كان وقودها قد نفد أم أن مشاكل المحرك قد عادت، لا يهم. أرى إلى جانبي بيتاً صغيراً من غرفتين. أترجّل من السيارة بصعوبة وكأن جسمي بدأ بالتضخم. أشعر بثقله وأنا أقترب. أضع أنفي على زجاج النافذة وأحدّق في الداخل. إطار كبير من الخشب الأسود، وصورتي بالأسود والأبيض داخله. تستند قاعدة الإطار على بلاط رمادي تعربش خلفه نبتة طويلة تسدل أوراقها على صورتي. تغطي منتصف وجهي. أهي أنا؟ نعم أنا! يبدو أن أحدهم لديه هوس بتقاسيم وجهي المنتفخة.

ـ4ـ
أرفع صوت التلفاز بالريموت كونترول الأزرق. أسمع النشيد الوطني يصدح داخل هذا المستطيل ذي الأبعاد السميكة، علم بلد ما يغطي الشاشة وشجرة أرز زرقاء تتوسط الشاشة بكل غباء. أقوم من الكنبة بتثاقل باتجاه التلفاز كي أمسح الغبار عنه. الصورة مشوشة والصوت يتقطّع، مخفياً العديد من كلمات النشيد. أحاول تذكّر الكلمات كي أملأ الفراغ بما هو مناسب. تخونني ذاكرتي، فأنا لم أغنّ هذا النشيد مذ كنت في المدرسة. أشعر بعينين تراقبانني من النافذة إلى يميني. ألتفت بهدوء. أرى أنفاً أحمر يلتصق بالزجاج ويراقب صورتي الملقاة داخل إطار أزرق ورائي. أمد لساني فجأة في وجه هذا الفضولي وأقهقه. تخرج ضحكتي زرقاء على ما أظن. يرتعب صاحب العينين في الخارج ويهرب. أرى خياله يصغر شيئاً فشيئاً كلما ابتعد. يركب سيارة صغيرة. يغوص في المقعد ويختفي.

ـ5ـ
أشعر أني خفيفة جداً. أنام على ظهري وأفتح ذراعي على وسعهما. أحرك أصابعي بكسل وكأني أعزف مقطوعة ما. أين أنا؟! ما بين السماء والأرض بين الغيوم والأمواج. أرى تحتي في زاوية على مفرق طريق، سيارة "كوكسينيل" بيضاء، تقترب من بحر أزرق. ها هو الأزرق يلاحقني مجدداً. أحرك رأسي الكبير وأفتح فمي كي أبلع السماء. يختفي اللون الأزرق تحتي. يصبح بلا لون. أبصق السماء مجدداً إلى فوق فيعود اللون الأزرق تحتي. تعجبني هذه اللعبة. أقضي أيامي على هذا المنوال: أبلع السماء ثم أبصقها فتتغير ألوان كل المياه تحتي، وصولاً إلى غرفة هذه السيدة الغريبة التي بدأت تصرخ بعدما تحول كل ما يحيطها من أزرق إلى لا لون.

ـ6ـ
في الحلم أعرف أين أنا، مكان هادىء وبعيد. لا أسمع إلا أنفاسي. لا أريد أن يُعكّر علاقتي بأناي صوتٌ غريب. الجميع غرباء عني. يغمغمون أصواتاً هجينة. يعطونها أسماء ثقيلة على أذني. لا أريد سماع حفيف الورق، ولا تكبيرات العيد. لا أريد أن أسمع فحيح الأفاعي أو نصائح الأمهات. لا أريد التنصت على أساتذتي الجهورين وتغريد العصافير. أريد فقط أن أبقى كما تشكلت من اللحظة الأولى، نقية كقطرة ماء لا لون لها، لا تتحكم في تكوينها انعكاسات وأضواء وأمزجة.

ـ7ـ
تقودني سيارتي بسرعة جنونية. "الكوكسينيل"، فولسفاغن، الخنفساء. تَشعر الناس بالقرف من الحشرات. تماهيت معها في هذه العتمة الحالكة. تعبت من تكرار الحكاية. نسيت أين أصبحت.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب