الإثنين 2023/10/30

آخر تحديث: 16:11 (بيروت)

ماثيو بيري.. الموت مزحة ثقيلة

الإثنين 2023/10/30
ماثيو بيري.. الموت مزحة ثقيلة
increase حجم الخط decrease
استيقظنا على خبر موت الممثل الشهير ماثيو بيري الذي اشتهر بتأديته لدور "تشاندلر بينغ". إذ وُجد ميتاً في الجاكوزي الخاص به في حمّام منزله في لوس أنجلوس.

"سأكون هنا إلى جانبك/ كأني مررت بكل هذا من قبل".. تبدو كلمات أغنية المسلسل الأميركي "فريندز" (تأليف ديفيد كرين ومارتا كوفمان) مألوفة لدى كثيرين، ليس لأنهم شاهدوا المسلسل، بل لأنّ تلك العبارة (كأني مررت بكل هذا من قبل) بحدّ ذاتها يمكنها أن تكون مأسوية بالقدر نفسه الذي تحمله من الضحك والسخرية في بداية كل حلقة جديدة من "الأصدقاء". 

الأشياء السيئة دائماً ما تحدث قبل تلك الجيدة، وحياة أيّ شخص شاهدة على ذلك. لو أدركنا ذلك عند حدوثها مرّة أخرى، فحينها ربّما سنمتلك الوسائل المناسبة لتفاديها.

ما الذي يسعه إذاً أن يردنا عن تلك الأشياء الرهيبة الكبيرة، كالشهرة والإدمان والألم والوحدة.. الأصدقاء؟ العشاق؟ أم أن هناك سبلاً أخرى لطلب النجدة؟ كأن نكتب مثلاً رسالة انتحار على هيئة مذكرات أو أن ننشر قبيل بضعة أيام من غرقنا في حمّام بيتنا، صورة لنا ونحن ننعم وحدنا بمياه الفجر الباردة.

كم مرّة قتلنا تشاندلر (ماثيو بيري) من شدّة الضحك؟ كان يكفي أن يعبّر عن هواجسه ورغباته تجاه الحياة المستعصية، حتى ينفجر الجمهور من الضحك. كانت الحياة صعبة ومستحيلة بالنسبة إليه، لكن ذلك كان مجرّد تمثيل، أوّ ربّما خيّل لنا أنّه كذلك.

كان ماثيو هو الوحيد بين طاقم المسلسل الذي كان يتصرّف على نحو بديهيّ، إذ قالها مراراً أثناء المسلسل: "سأموت وحيداً" وأيضاً: "أظنني أنا من سيموت أولاً بينكم"...لم يكذب، بل لعله استشعر أنّ تلك هي ضريبة تأدية دور حقيقيّ، أن تلتزم به إلى حيث يقودك الكون، غارقاً في وحدتك الحقيقية.

في مذكراته، "الأصدقاء، العشاق والشيء الرهيب الكبير"، يخبر ماثيو أنّه و"تشاندلر" يملكان الشخصية نفسها. لم يضع جهداً هائلاً لتجسيد شخصيّة تلفزيونية طُلبت منه تأديتها، بل كان هو وهي شخصاً واحداً. "عندما قرأت السيناريو الخاص بفريندز كان الأمر كما لو أن شخصاً ما تبعني لمدة عام، يسرق نكاتي ويقلد سلوكياتي ويصوّر وجهة نظري المرهقة من العالم". 

ربما يكون ماثيو قد انتحر. ربما يكون قد مات من الضحك بسبب نكتة ألقاها على نفسه وهو مسترخ في مسبح منزله في لوس أنجلوس. ربما كان مدمناً، وربما شفي تماماً من الإدمان. ربما "الشيء الرهيب الكبير" لم يكن وحش الإدمان، بل كان مرض العار المصحوب بطفولة سيئة، الأمر الذي جعله يبتلع مشاعره أثناء تصوير حلقات المسلسل الشهير، مع كل قرص فيكودين وربع غالون من الفودكا يومياً. يختبئ من نفسه من خلال الإدمان ويواجه العالم بشجاعة مزيّفة، بعكس "تشاندلر" الذي كان يخبئ نفسه خلف السخرية، تلك التي لم ولن تقتل أحداً يوماً.

قالها ماثيو على الهواء مراراً: "كنت أعاني من الإدمان وحدي بالرغم من أن زملائي في المسلسل كانوا مثلي يملكون كل ما أملكه، وذلك لم يكن عادلاً أبداً"، كأن الحياة كلما ابتسمت لماثيو، كلّما ضاعفت نسبة الكحول والمخدرات في دمه، كأنما كان يُعاقب الحياة من خلال معاقبة نفسه. 


وعندما شارف ماثيو على الموت في العام 2018 إثر أزمة انفجار في المعدة، قال: "كنت واحداً من خمسة أشخاص وُضعوا على جهاز التنفس في تلك الليلة، مات أربعة، ونجوت أنا". 

لقد أنقذتنا سخرية هذا الرجل كثيراً، الأمور السيئة نفسها كانت تحدث مع معظمنا على الأقل، تماما كما حدثت معه في المسلسل، حتى لو لم تكن الشخصية التي أدّاها ملكه، بل ملك شركة إنتاج ضخمة، لكن ماثيو كان مميّزاً حقاً وسرعان ما ترك بصمته المضطربة على مُشاهدَتنا وتركنا مرات عديدة نشفق على أنفسنا.

مَن منا لم تخطر في باله الأسئلة ذاتها عن شكل ماثيو الذي كان يختلف كثيراً بين جزء وآخر؟ الوزن الزائد، الجسد نحيل، اللحية الغريبة وما إلى هناك... تلك أمور لم تكن تدل على التقدم الطبيعي في العمر أبداً، بل كانت عوارض مرض ما، امتزجت ولسبب غير مفهوم، مع سلوكه الدفاعيّ الساخر الذي شابَه أيضاً دفاعاتنا.

لقد مرّ ماثيو بيري بـ"كل ذلك من قبل"، تماماً كما تقول الأغنية. الموت والإدمان والعلاج والأطباء والأدوية والشهرة والاضطراب، كما النجاة. لقد مات ألف مرّة قبل أن يودّعنا بالفعل، غرقاً أو إنتحاراً، لا يهم كيف غادرنا، لكنه وبكل تأكيد وجد الطريقة الأنسب لإضحاكنا ولو لمرّة أخيرة. الأمر نفسه يحدث كلّ مرّة بُعيد حادث موت مؤسف. تتدفّق الضحكات الجميلة أولاً، تتحوّل إلى أسى من ثمّ يتسع ويتفشّى في ذاكرتنا فيحيل الموت مزحة ثقيلة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها