الثلاثاء 2019/12/03

آخر تحديث: 19:35 (بيروت)

في سوق الأحد: "خصم عالثورة!"

الثلاثاء 2019/12/03
في سوق الأحد: "خصم عالثورة!"
من مسيرات بيروت (علي علوش)
increase حجم الخط decrease
هناك، أسفل "الجسر الواطي"، ثمة طريق نافذ يعبره المارة الى "سوق الأحد". بإمكانك أن ترى في الجهة المحاذية، شركات تجاريّة ضخمة لأهم أنواع السيّارات في العالم (بنتلي ولامبورغيني وغيرهما). البارحة عبَرتُ الطريق نحو السوق للمرّة الأولى. مَن يعرف برج البراجنة وحيّ السلم وساحة رياض الصلح حديثاً، لن يضيع في سوق كهذه. وفكّرتُ، لمَ لا يعبر الفقراء الى تلك الجهة من الشارع؟ لماذا لا تباع "البنتلي" في سوق الأحد بعشرة آلاف ليرة؟

شعرتُ أنّي فقير جدّا. ولم تكن لديّ أيّ مشكلة في ذلك. لكني، في بعض الأيّام الأخرى، يراودني شعور طاغ بأنّي لا أريد كلّ ذلك الفقر.. فقراء السوق ورفاقي الشيوعيّين. لا أعرف كيف لا يكون المرء شيوعياً وهو لا يملك في جيبه أكثر من ألف ليرة.. ولا أعرف إذا ما كان بإستطاعته أن يظلّ شيوعياً إذا ما امتلك مليون دولار. ثمّة حرب هنا، حرب تنطلق من ذواتنا ومن محاولاتنا المستمرّة لفهم كل تلك التناقضات.. كأن تحاول فهم ما جرى الأحد الماضي على جسر الرينغ، حين ضرب فقراءُ فقراءَ مثلهم.. كأن تنتقل من التبضع من سوق الأحد، الى “LeMall” وأن تشعر بأنّك تودّ لو تتبضع فيه طوال حياتك، لكنّك تنتظر قول الله: انّني عند المنكسرة قلوبهم، فتحاول مناجاته بالقول: كُن عند المنكسرة جيوبهم.

لم أقرأ فلسفة الفقر عند برودون، لكنّي أجد جواباً واحداً لكلّ ذلك البؤس الإقتصادي.. إنّهم الفقراء الذين يريدون أن يظلّوا فقراء إلى الأبد. كيف سيفهم هؤلاء طبقيّة ما يجري الآن؟ إنّه الشعور التام بالعجز، بالإكتفاء أو بالقناعة. ذلك ما يجعلهم يظنّون أنّ الحائط الكبير بين الأسواق الشعبيّة والأسواق اللامعة لا يمكن هدمه.

اليوم، كل تلك الحرب التي يتحدّثون عنها، التي يتخوّفون ويخوّفوننا منها.. كيف نقنعهم أن في رأس النبع حيٌّ متصدّعٌ بالرصاص القديم، وإلى جانبه مبانٍ تجاريّة ضخمة؟ وأنّ الأغنياء سيطيرون كالبطّ حينما تتجمّد البحيرة، أمّا الفقراء فسيجلسون فوق جسورهم منتظرين انقضاء البرد؟ الحرب كما الحياة، يجب أن تكون في مكان آخر، في مكانها الصحيح. في السوق مثلاً كان أحد الباعة يصرخ: "خصم عالثورة!"، كان ذلك مضحكاً للغاية، فتلك القطع التي أمامه لا تحتمل المزيد من الخصم، والّا فستباع بالمجّان. عندها، أردت أن أمسك بأيدي كل الفقراء في السوق، لأتّجه بهم نحو متاجر "زارا" و"ماسيمو دوتّي". حينها لن يبقى أيّ معطف أو جاكيت أو حذاء عصيّاً على الشراء. إنّه زمن الثورة، وعلينا، أنا ورفاق السوق، أن نركب سيّارات فخمة وأن نوزّع الملابس بالمجان في الشوارع، تماماً كما فعل ذلك البائع الثائر.

البارحة وبينما كنت عائداً من السوق، لفتت نظري شتلة صغيرة تطلّ من خلف حائط خشبيّ، وإلى جانبها على الرصيف، عامود إنارة ملتوٍ إثر حادث قديم. كانت الشتلة الصغيرة تسترق النظر الى العالم، والعامود يتقدم نحوها كأنها تناديه، كأنها تطلب ضوءاً.

اليوم استيقظتُ على موت ناجي. حصل خلف حائط مبنى حجريّ في عرسال، أنّ علّق ناجي مشنقته، لأنّه لم يكن يملك في جيبه ألف ليرة يعطيها لإبنته الصغيرة. الآن، اكتملت الصورة في رأسي، الشتلة المطلّة كانت البنت.. تتوسّل العبور. أمّا العامود الذي هبّ لندائها، فهو الأب الذي انحنى أكثر مما يحتمل، وانتهى به الحال منكسراً في الجهة الأخرى. بعض الناس كُتِب عليهم أن يموتوا وأن يولدوا في الجانب الآخر من السور. يقولون ساخرين أنّ العشب يكون أكثر اخضراراً في ذلك الجانب، وذلك معناه أن النبتة الصغيرة التي سئمت حياتها، لن تجد في حياتنا هذه، التي تطلّ عليها، أيّ سبب جدير بالحياة. وأنّ ماء الحياة الذي لا يسقينا هو ما سبّب كلّ هذا اليباس وقصر النظر والبرد في القلب.

هنا، في هذه البلاد، تعلّمنا أن نستعير الوجع، لأنّنا لم نكتشفه كما يجب. لذلك، وكما فعل فولتير في نهاية رواية طويلة عن البؤس، علينا، نحن الفقراء جميعاً، أن نزرع حديقتنا. أن نشّذب رؤوس الأغنياء عوضاً عن رؤوسنا المعلّقة على المشانق، تلك التي ستنبت غداً كشتلة صغيرة من خلف سور.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها