الثلاثاء 2023/01/17

آخر تحديث: 13:48 (بيروت)

جسر المشاة: عبور الى حياة أخرى

الثلاثاء 2023/01/17
جسر المشاة: عبور الى حياة أخرى
صرخة مونخ
increase حجم الخط decrease
أخطو ببطء كافٍ كي لا تنتبه لي العتمة، وبسرعة كافية تحذّر السيارات مني أو تقيني منها. كل يوم، يجتمع التوقيت الشتوي مع الطقس القارس، على جسر مشاة وهمي تتغاضى الدولة عن بنائه لسنين طوال، مجبرة مئات المواطنين على المخاطرة بحياتهم في طرق سريعة وخطرة لا إنارة فيها ولا إشارات مرور. لن تتمهل سيارة لتسمح لي بعبور الطريق.. وإن تمهلت سيارة، فلن تتمهل الأخرى لأحاول التوازن على خط فاصل بين خطَّي المرور المتعاكسين. 

أقطع هذا المسلك، الوعر والمعبّد في آن معاً، كل يوم، متذكرة أبيات خليل حاوي: "يعبرون الجسر خفافاً/ أضلعي امتدت لهم جسراً وطيد" إذ كتبها بعد الاجتياح الاسرائيلي لبيروت العام 1982، ودفعه هَول المشهده إلى الانتحار. وبعد 14 يوماً من الاجتياح، تحررت بيروت من العدوان. 

لم تكن بيروت لتتحرر لولا رفع علم لبنان على جثث الشهداء والشعراء معاً. أعتقد أن الأمر ذاته ينطبق على الجسور في مدينتنا أو ربما في سائر المدن. لا يُبنى جسر سوى على جثة عابر سبيل لاقى مصرعه خلال عبور خاطف الى الجهة الأخرى: من جهة الطريق اليمنى الى اليسرى أو العكس، من الحياة الى الموت.. حيث يكمن التحرر الفعلي. 

هكذا، يتحول الجسر أو غيابه الى ما هو أعمق من عبور طريق ينجح بالتفاتة نحو اليمين وأخرى نحو اليسار. بل يمسي عبوراً نحو حياة أخرى تُلهم الدولة بناء جسر مشاة. 

بتّ ألحظ جسور المشاة أنّى ذهبت في لبنان، وأتساءل عن السبب الذي قد يدفع وزارة الأشغال لبناء جسر في بعض مناطق هذا البلد وتجاهل مناطق أخرى تكون في أمسّ الحاجة إليه. 

أظن أن لا جسر بُنِيَ عن سابق تصور وتصميم، في لبنان على الأقل. لم تدرس خصائص الطرق التي تحتاج الجسور، ليُبنى الجسر بعد مهلة قصيرة. وأظن أن الكلفة الحقيقية لبنائه تتجاوز أجرة المتعهد لتبلغ حياة أو حيوات. يذكّرني ذلك بمصرع جورج الراسي في الطريق بين لبنان وسوريا والذي فقَد كثر حيواتهم فيه! أقلب نظري في أرجاء هذا البلد. ألحظ الطريق المستوي والآخر المتعرّج والجسور وإشارات المرور، وأسأل نفسي: كم حياة كلفت كل منها؟ ولو لُوِّنت اليوم بدم الناس التي توفيت مطالبة بها، ماذا يبقى من لونها الأصلي الذي يصارع حمرة الدم؟ 

بيد أني أحصر الموضوع في لبنان لأنه مسقط رأسي بكل المعاناة التي تعج فيه، إلا أني أعي تماماً أن الجسور عموماً تعبّر عن حالة موت رومانسية بعض الشيء، تتجلى من خلالها عبثية الوجود وعدميّته. إدوارد مونخ، رسم صرخة الجسر النروجي الأشهر في العام 1893. بل رسم أربع نسخ من اللوحة التي ما زالت الى يومنا هذا تزعق في المتحف الوطني في أوسلو. 

قبل بضعة أشهر، أقرّت الحكومة الأردنية رسوماً جزائية على من يحاول الانتحار في مكان عام، مانعة الاقتراب من قدسية الجسور. كما حصل أن شُيّد جسر بشري من المتظاهرين المقنوصين الجامِعين لضفتي نهر السين العام 1961. كسروا حظر التجوال ليفرضوا أنفسهم حظراً على الملاحة البحرية، وكي تعبُر ذكراهم فوق جثثهم الى عالم أكثر عدلاً. 

عبور الفلسطينيين لجسر الملك حسين يومياً، يمثل وجهاً آخر للعب الجسور دوراً يعبر مقدسات الحدود الجسدية كما السياسية. كما انهيار خطوط التماس على جسر البربير، شكل صفعة للتقسيم الطائفي للعاصمة. ربما لم تشأ الجسور أن تطأطئ رؤوسها هكذا، بعد كل شموخ، فتجرف الإسفلت لتركز رأسها تحت الأرض. ربما وددتُ لو تكون أفعى تزحف حتى أبعد بيوت الضواحي البيروتية لتصلهم بقلب العاصمة. ورحبت بفكرة أن تصبح جسوراً للملتقى العام وجسوراً بديلة عن الحدائق العامة وجسوراً لتجمهر الحياة، لا الموت. 

لم نفكر قط بمراد الجسور. جلّ ما نعرفه أنها واسعة تتيح مرور شخصين أو أكثر، وهي رفاهية لم تقدمها لنا الأرصفة قط. كما نعرف أنها بُنِيَت لتعزز خوفنا من المرتفعات، فنضطر الى الاختيار بين عبور الطريق السريع أو الطريق العالي ونتحدى مخاوفنا من العتمة والاكتظاظ أو العتمة والوحدة. 

سيبقى عبور جسر المشاة حلماً صعب المنال في لبنان، كما سيستحيل عبور جسر بلا ذاكرة أو رائحة. لكن، إن تسنت لي الفرصة، سأتسلق الجسر لأشعل سيجارة أرميها على أفخم مرسيدس تعبر الطريق تحتي، فهي، لولا هذا الجسر، لم تكن لتتوانى عن قتلي. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها