الأحد 2022/09/18

آخر تحديث: 00:03 (بيروت)

مقطوع من شجرة.. يغرس نفسه حيثما يريد

الأحد 2022/09/18
مقطوع من شجرة.. يغرس نفسه حيثما يريد
لوحة رانجيت راغوباتي: "الوحدة"
increase حجم الخط decrease
لم أكن وحيدة طيلة حياتي، إلا للحظات قليلة. ما زلت أذكرها بالرغم من قصرها. كنت خلالها حرة طليقة، أدخن وأرقص. أغني وأضحك. أبكي وأنام متى أشاء. وكان ذلك في مكان بعيد عن أي شخص تربطني به علاقة. لا صديق ولا حبيب. لا ولد ولا أهل،... وكلب ماكو (كما تقول المغنية).

لا أعرف إن كنت قد اخترت هذه اللحظات، أن أكون وحيدة، أم أُجبرت على هذا، أم أني بلا وعي سعيت إليه. بالرغم من تناقض الاحتمالات الثلاثة، إلا أني فعلاً لا أعرف. حتى اليوم، لم أفهم مرة أسباب ما يسمى فشلاً ما في الماضي، ولا عرفتُ أن أحلل المعطيات كما يفعل البعض بهدف تجنب الخطأ نفسه في المستقبل. فرأسي لا يفرز  هذا النوع من الذكاء، بل أجدني بكل تَيسنة ورحابة صدر وتصميم، أختار العوامل نفسها ونوع الأشخاص أنفسهم الذين يشعرونني بالفشل.

إذن هذا هو لبّ الموضوع. الأشخاص المحيطون بي، وعلاقتي بهم هي ما يجعلني أشعر بالعجز والفشل، في أحيان كثيرة. ولذلك أؤلّه لحظات الوحدة، حتى لو لم أفعل بها شيئاً يُذكر. كأن العلاقات هي التي تجعلني أدخل في إطار ما، ومهمة ما، واسمٍ ما، فأتفاعل، فيخرج مني ومن الشخص المقابل أسوأ ما فينا، فتفشل.

عن أي إطار ومهمة أتكلم؟...
مثلاً، عندما أقترب من أمي أصبح ابنة. أدخل في هذا العالم الضيق بيني وبين أمي. تتدخل في طريقة كلامي واختيار ثيابي وتقارنني بالفتيات الأخريات. لا يعجبها ستايلي. تقولها من باب النصيحة. أكره كلماتها وأكرهها للحظات قد تطول. أشعر أني غير محبوبة وأن ثقتي في نفسي تقل بسبب انتقاداتها الدائمة، أكرهها أكثر. تمرض أمي فجأة، فيستيقظ بداخلي كل تأنيب ضمير العالم، لأني كرهتها يوماً. الشعور بالخسارة يُضعف الحلقة الأقوى. هذا التأنيب يولد الحزن، فالأسى، وقد يصل بالبعض إلى الاكتئاب.

أخرج من إطار الابنة وأطلّ على ابنتي من ثقب الباب. أقع في رتبة الأم. أستجمع نفسي كي أحوز بجدارة لقب الأم، أحاول حشر كل الصفات النبيلة كما تعلمنا. أُضحّي بوقتي وطاقتي من أجلها. تنفر مني بسبب كلمة واحدة لا تعجبها، فتتهمني بأني مقصّرة. أصدق، فأنهار وأبكي وأكتئب. أفعل لها كل ما يمليه عليذ ضميري، لكن بحركات الرجل الآلي. كيف أشرح لها أن هذا ليس ذنبي، وأننا نخاف التعبير عن الحب في مجتمعاتنا؟

تصرخ لي أختي أن آتي إليها، هي بحاجة إليّ. أرتدي قناع الأخت، وأمضي. تحدثني عن مشاكلها. لا أنصحها، لأن نصائحي لا قيمة لها. متأكدة.

أشكو لزوجي أني أحب السكون والهدوء. يتهمني بإهماله. زوجة فاشلة. لا تعرف الاعتناء بثيابه ومزاجه. تنسى دائماً الأكلة التي يحبها. وعندما يمرض، تنام كي تهرب.

هل هناك من هو أكثر فشلاً مني؟
البعض يسمّي هذا أنانية، أو قلة تدبير، أو غباء. لا يهم الإسم. أو يهم، لأني عندما أبتعد عن أي إسم لي، أو لقب أو دور، أنجح. أنجح جداً.

أتذكر جيداً في لحظاتي القليلة حينما أكون وحدي، بعيدة، أني بكيت وأنا أشاهد فيلمي المفضل. وأني لست بلا إحساس، كما قالوا. كما أني مسحت البيت كله بالماء والصابون، وأنا أغني. لست كسولة. ثم ذهبت إلى العمل، وترقّيت لأني أنجزت كل ما طلبوه مني بسرعة فائقة. شعرت وقتها أني أستحق العيش. لا يكدرني أحد. لكن الحياة اختارت ألا أكون وحيدة. تصرخ امرأة مسنّة وحيدة: أنتِ محظوظة. أنظر إليها بلؤم، وأغرق داخل علاقات وأسماء اختاروها لي ولا تشبهني في شيء.

يقول محللون نفسيون إن اختيار الوحدة هو خوف من الآخر وقلق من المواجهة. مواجهة نفسك، أظن، وليس الآخر.

أعشق العوالم التي أخلقها مع كائن غير حسّي، كالموسيقى، الورق، والأفكار، واحتكاكي بجسدي عند الرقص. مع هذه الكائنات، لا أحكام، ولا أخذ ولا عطاء، ولا تقييم أو انتظار. هناك تلاحم، تقرر أنت متى تنفصل عنه.

أسمع نحيب صديقي ليلاً، لأنه بلغ الستين من عمره، ولم يتزوج ولم ينجب أطفالاً. يخاف أن يموت وحيداً. يخاف، إن مرض، ألا يعتني به أحد. عاش طوال حياته بالطول والعرض، بلا مسؤولية وبلا ضغط. والآن يريد ممرضة وممرضين، يسميهم زوجة وأولاداً.

تقول جدتي التي لم أرها يوماً: ما فيك تحصل على كل شي بهالحياة.
الحمد لله إني لم أكن حفيدة يوماً. فجدتي، حسبما قيل لي، بخيلة... إلا بكثرة الأمثال.
فأردّ عليها: محظوظ مَن هو مقطوع مِن شجرة، فيغرس نفسه أينما يريد.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب