الأربعاء 2022/09/14

آخر تحديث: 17:15 (بيروت)

إن فقَدنا الأفق ونسينا الصمت...

الأربعاء 2022/09/14
إن فقَدنا الأفق ونسينا الصمت...
لوحة للفنان الأميركي جيف كونز
increase حجم الخط decrease
لست من الصنف الذي يستطيع العمل في قلب الفوضى. لا أحبّ الكتابة إذا لم يتوافر لدي حدّ أدنى من الاستقرار والأمان. المشاكل والأزمات لا تُلهمني، وعدم الثبات لا يولّد في أفكاري إلا التشتت والإحباط. أحاول بعد مرور سنتين على قدومي إلى باريس، استيعاب ما حصل ولم يحصل، أحاول استذكار التغيّرات التي نتجت عن اختياري للمرة الثانية بلداً جديداً بعدما تبدّدت خطط العودة إلى لبنان.

أستجلب اللحظات المهمّة أو المحورية في هذه الفترة، فلا يأتي منها إلى خاطري إلاّ القليل… أركّز أكثر، فتتهافت وتتتابع المَشاهد: المرض الذي أصابني لدى وصولي، الألم والأدوية المخدّرة تحت عناية أخي الأصغر، لحظة الفرح بعد قبولي في معهد الموسيقى، ساعات المترو الطويلة ووجوه البشر المختلفة شكلاً والمتشابهة في التعب والضجر، جلسات الطبخ الضاحكة مع الأصدقاء، زيارات العائلة، أيام العمل المضنية، لحظات الوحدة القاتلة ولحظات الوحدة المُلهِمة والسعيدة، تنقّلي الدائم بين المنازل بسبب أزمة السكن في هذه المدينة… الحقائب ثم الحقائب. قد تتيّسر لدى أي قادم جديد، كل مقتضيات الحياة الكريمة هنا، باستثناء المسكن: عقد الإيجار في باريس هو أعجوبة فعلاً (الشرط الأول هو وظيفة مثبتة مدى الحياة، وراتب يفوق ثلاثة أضعاف سعر البيت، علماً أن الحد الأدنى للأجور يضاهي بلا مبالغة غرفة بمساحة الصالون في بيت جدّي مثلاً).

أصبح السكن في قلب العاصمة حكراً على الأغنياء والموظفّين الكوادر وبعض المحظوظين والورثة والعائلات الصغيرة. أستاذ جامعة لا يستطيع تحمّل تكاليف العيش في باريس إذا كان لديه أكثر من ولد. بهذه البساطة. أما الباقون فيعتمدون على المعارف أو يلجأون إلى  تزوير وثائق الضرائب والرواتب لكي ينجحوا في امتحان التدقيق في ملفّات طالبي الإيجار، أو يستأجرون عبر السوق السوداء بلا أي ضمانة ولا حماية، أو يعيشون بتقشّف بالغ، وقد يتشاركون البيوت مع الأصدقاء والأغراب. وأدّت ظاهرة ارتقاء الأحياء أو تأهيلها gentrification، إلى طرد جزء كبير من الطبقة الوسطى، وبشكل أعنف السكان الأكثر فقراً وهم غالباً من المهاجرين، إلى القرى وأحزمة البؤس على أطراف المدينة، مشكّلين فيها جمهوريات شعبية مصغّرة لا رقيب فيها ولا حسيب، لصالح بعض الأحزاب السياسية التي تستعملها كحجّة لتبرير شتى أنواع التعصّب وكراهية الأجانب، أو لحشد ناخبي اليسار المتطرّف في المناطق الشعبية التي لا تحتوي على عدد كبير من الناخبين نظراً لبنيتها الديموغرافية.

كل هذه الأمور رأيتها وعشتها فيما كنت أتنقّل بين عوالم باريس الخفية والمرئيّة، وإذا بي أمام هذا السؤال: منذ متى أصبح السكن همّاً؟ وكيف أصبحنا قادرين على العيش والأكل والعمل والنوم في المساحة نفسها، مُكدَّسين كالسردين في العُلب. وبعيداً من النقاش حول الرأسمالية والعولمة والثورة الصناعية ثم التكنولوجية، وتبعات ذلك على حياة البشر وتخطيط المدن ونظام العمل، وبالتالي على مفهوم المساحة نفسه وأهمية أو عدم أهمية "البيت"، لا يمكن أن ندرس هذه العوامل من دون دراسة تأثيرها في عقولنا. إذ اعتاد الإنسان على المدى والمساحات، وإن لم يتسنّ له المأوى، فربما كان الترحال متاحاً بطريقة أرحب.

كيف لعقولنا أن تخرج من حلقات مفرغة من التفكير العقيم الصاخب، إذا فقدنا الأفق ونسينا الصمت؟ كيف لأرواحنا أن تسكن وتشفى في سجون اختفت فيها الحدود بين البشر؟ سجون تنصبّ فيها مآسي الجماعة وهذيانها في وعاء سمعي بصري حسّي واحد، فنضحي نحن المأساة والهذيان، وننسى أننا نفتقر لأحد العناصر الأساسية لتوازن أي كائن بشري، وهو الفضاء الذاتي، الذي يشير إليه عالم الأنثروبولوجيا إدوارد هول بـ"البُعد الخفي". فمتى ما تقلّص هذا البعد، وتغيّرت، بل تشوّهت في مجتمعاتنا، مفاهيم المساحة الشخصية والمجاوَرة والتشارك والتحرّك، بتأثير واضح في تشكيل هوّياتنا الفردية والجماعية، تقلّصت معه القدرة على الإسقاط والتماهي والتفكير والحُلم، لغياب المساحة الجسدية وبالتالي الفكرية الضرورية لذلك. وفي النهاية تتقّلص مساحة الخيال. أي مساحة الروح. نعم قد يبدع المعتقلون في سجونهم، لكن حريّ بنا أن نزيل هالة الرومانسية عن تلك التجارب المريرة.

أكتب في المقهى، حيث يتسنّى لي أن أراقب من الشباك شجر الحور وورقه الفضّي الراقص فوق مياه النهر… يلمع بجنون، مثل شجر الحور على "التل" في أرض صبري حمادة بمحاذاة قريتنا، حيث كنا نجلس لنراقب بذهول الأطفال مرور الخيل في المدى، بُشرى أو سراباً، بينما يهبط علينا سحر المغيب ذهباً… وفي كل مرة، ينقذني شجر الحور من فقدان المكان. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها