الثلاثاء 2023/03/14

آخر تحديث: 11:02 (بيروت)

أنا الكثيرة في صُوَري

الثلاثاء 2023/03/14
أنا الكثيرة في صُوَري
اللوحة للفنانة اللبنانية ماجدة شعبان
increase حجم الخط decrease
أستيقظ في الأيام العادية الساعة السابعة وأربعين دقيقة، بلا منبّه. أريد النوم، لكني لا أستطيع: غالباً ما يوقظني شعور بالهلع ممزوج بالترقّب والحماس، وكأني أنتظر أن يحدث لي أمر خارق. أن أتلقى رسالة مفرحة أو خبراً مشؤوماً، أن يسعفني الفجر وأجد حلّاً لمشكلة قديمة أو أن تدفعني الإرادة إلى تنفيذ تمارين اليوغا باكراً، أن يحدث أي شيء خارج عن العادة... لكن لا جديد تحت الشمس كما يقولون.

لا شمس أصلاً، بل سماء بيضاء ثقيلة، وأصوات أولاد يتدافعون في باحة المدرسة، وزوج من طيور الببغاء الاستوائية من اللون الأخضر يقيمان في شجر الحور المقابل لشرفتي، لا أعرف ماذا أتى بهما إلى هنا. أتصفح الموبايل فأجد تشكيلة صُور صمّمها لي "غوغل". صور قديمة، نسيتها، وتم حفظها في السحابة. بعضها لا زمان ولا مكان يُذكر له. أراقب تغيّر ملامحي على مر الزمن، وأتعجّب.

في السنة التي تلت وفاة والدتي (وصودفت بعد حرب تموز)، كنت أبدو جميلة وحزينة، كدمية منسيّة بين أنقاض زلزال. أشفق على نفسي، ثم أغضب من شعور الشفقة، وأطرده. أما في السنوات التي استوعبتُ فيها وقع الصدمة، فقد بدا حجم وجهي في منتهى الصغر، وكأن الحياة التي كانت تسري في شرايينه وعضلاته قد غادرته إلى مكان آخر…

في الصور العائدة إلى فترة الرقص، أرى وجهي بريئاً ومضيئاً، كوجه طفلة تركب الدرّاجة للمرة الأولى في حديقة الصنايع. في سنوات السفر المتكرر بسبب طبيعة عملي، كانت ملامحي تعبة ونظرتي فارغة، وجهٌ متقّلب كملامح المدن التي زرتها، راكد ومتذبذب كصفحة بحيرة، مجهول العمق. صورة أخرى بعد علاقة سامة مع شاب عانيت فيها من الوسواس القهري وشياطين أُخرى، هنا أبدو عجوزاً، أبدو أكبر من الآن! بل أبدو قبيحة فعلاً.

أما أجمل الصور فهي التي تتوافق مع آخر سنوات عشتها في لبنان خلال دراستي الجامعية. صورة على شاطئ "طمطم"، وأُخرى في مقهى "دوبراغ" مع شقيقتي. هل كانت غبطة الرحيل، أم غزارة الحياة آنذاك، أم ذلك الإيمان الساذج الذي يبشر باحتمالات الفرح اللامتناهية؟ ما زلت لا أعرف. وربما استعدت الآن، في عمر الأربعين الذي كنت أهابه، شيئاً من تلك الطراوة وذلك الأمل.

وقد يحدث لي في بعض الأيام الربيعية أن تبرق عيناي بشدّة. أن أنتشي أمام البحر أو في حضرة الموسيقى، وبصحبة من أحب… أفكرّ.

طبعاً، العمر لا يحدده الزمن، إنما تحدده الرغبة في الاستمرار. يد واحدة هي يد الحياة والموت، تخط تضاريسه بريشة الأحداث. قد تكون التجاعيد مسلكاً للعبور إلى شواطئ السكينة المترعة بحلاوة الدبس المتخمّر، وقد تكون شرخاً في الذاكرة وتمزقاً في أطوار الروح. قد تتقلّص مساحة العين مع ترهّل الجلد المحيط بها، لكن الحدقة، إن تغذّت بالجمال، اتسعت لأكوانٍ من البدايات. تكبر بقدر ما تصغر المسلّمات والثوابت. والحب، إن كان مصدراً للإشراق، فشرطه أن يكون غيرَ مشروط، أي غير متبادل، أفلاطوني خام لا ترقّب فيه ولا خوف ولا تشاطر للذات، وإلا استحال فجوة يتسرّب منها النَّفَس إلى كيان الآخر…

ربما سأبدأ بالبوتوكس والفيلرز قريباً، لا أعرف. ما سيحددّ ذلك هو مدى تصالحي مع الشعور بالوقت الضائع، بالهباء، وليس مع الشيخوخة أو التقدم في العمر. إذ لست متصالحة مع ذلك، ولا أعرف أصلاً إن كنت سأصل إلى هذه الحقبة. أمام المرآة أقول لنفسي: "مبيّنة صغرانة اليوم"، وتحضر في نفسي أبيات الشاعرة أليخاندرا بيسارنيك:

"أتذكر طفولتي
عندما كنت سيدة عجوز
ماتت الزهور في يدها
لأن رقصة الفرح الجامحة
حطّمت قلبها.
أذكر ذاك الصباح المشمس الأسود
عندما كنت طفلة
أي بالأمس
أي منذ قرون…" 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها