السبت 2022/08/06

آخر تحديث: 20:09 (بيروت)

رحلة الأنف بحثاً عن الكنز

السبت 2022/08/06
رحلة الأنف بحثاً عن الكنز
(لوحة: Lauren Jacobs)
increase حجم الخط decrease
كثيرًا ما أباغت أنفي وهو يبحث في روائحي عني. وروائحي كثيرة، أحاول أن أتصالح معها، ولا أنجح دائماً، لكني في اللحظات الحاسمة بحرَجِها، لا أهرب من أي منها.

لديّ أنف فضولي، تعرّف على كل روائحي في مناسبات وأوقات مختلفة. كيفما أدرت أنفي، شممتُ على الأقل إحدى هذه الروائح: رائحة قدميّ، رائحة إبطي، رائحة حيضي، رائحة شَعري، رائحة فمي، رائحة جلدي، رائحة مهبلي، رائحة بولي، رائحة خروجي، رائحة غازاتي، رائحة تجشّؤي.

روائح تعرّفت عليها أيضاً أنوف من شاركتها معهم، من دون أن تكون لدينا بالضرورة آراء متشابهة بشأنها. لكن روائحي تشبهني: منعشة أحياناً، مقززة في أحيان أخرى. بعضها قوي لا يمكن تجاهله، وبعضها رقيق لا يعلن عن شذاه بصخب. وعندما تمتزج أكثر من رائحة، أشمّ رائحتي، ودائماً أتعرف عليّ.

ومثلما أنه لا مفرّ من روائحي –التي أحاول ألا أشغل بالي دائماً بالبحث عن مفرّ منها- لا مفرّ أيضًا من الروائح التي تسعى للقضاء عليها أو تغطيتها. فلكل رائحة، مُزيل: معجون أسنان، مزيل تعرق الإبطين، مزيل تعرق القدمين، غسول للجسم، شامبو، غسول للمهبل، كريم للجسم، كريم لليدين... روائح كل هدفها أن تخفي أثري وتستبدله، إنما هذا ضرب من المحال!

عندما أعود من يوم طويل أمضيته في الخارج، منتعلةً حذاء رياضياً، وأنزع الجوارب الملتصقة بأصابع قدميّ، أعدكم أنكم لن تشموا رائحة مِسك، ولا غاردينيا. ففي نهاية الأمر، أنا لست سوى امرأة من كوكب الأرض، حيث الأقدام تتعرّق وتفوح منها رائحة تعرّق قد لا تكون الأذكى على الإطلاق، لكن روائح الأقدام المتعرقة دائماً ما تكون هكذا! علماً أن لقدميّ غير المتعرّقتين رائحة ذات شذى خفيف يعجبني. وإن حصل، وكنت برفقة شخص أهتمّ لاهتمامه بي، فسيشمّ هذه الرائحة حكماً أثناء نزع الجوارب، لأني لن أنتظر انشغاله في غرفة أخرى لأنزعها. فحتى لو اختبأتُ منه، أنا ورائحة قدميّ، لا بد أنه سيلاحظ رائحة تعرّق إبطي التي وبالمناسبة تعجبني في الحالتين: قبل التعرّق وبعده.

وإذا قررت الاختباء كي أتجنّب تواجدي قربه في لحظات انبعاث أي من روائح جسدي، فهذا يعني أني سأقضي وقتي مختبئة. وما الذي سيعرفه عني ذاك "المُهتمّ" إذا لم يقتفِ أنفه أثر روائحي؟ هل يبحث عن أثر بديل مصنّع من قبل خبراء قرروا ما هي الروائح الجميلة والذكية والمثيرة، والتي في رأي أنوفهم أجمل وأذكى وأكثر إثارة من روائحي؟

لا يمكنني الهرب من روائحي، التي ليست دائما جميلة وذكية ومثيرة، كلبتي تعرف روائحي وتستدل بها عليّ. تريد أن تشمّني لتطمئن وتهز ذنبها فرحاً. تريدني أنا. فلماذا أضع رائحة ورود على جسمي؟ أنا لست وردة، وليس لجسمي رائحتها.

والأنف أصلًا في رحلة بحثه لا يكتفي برائحة الورود البديلة، لأنها إن وجدت، فهي عابقة ولا تتطلب بحثاً. الأنف يخترقها ويبعدها منقّباً عن الرائحة الأصل. الأنف في رحلة بحثه يقول لنا إنه لا يتجنب الرائحة الأصل، بل هي مقصده، وما الرائحة البديلة إلا عوائق لن تثنيه عن الوصول إلى جائزته الكبرى.

في النهاية، وفي الساعات الأخيرة من اليوم الأخير ستختفي آثار روائحنا، وسيتم استبدال احتمال انبعاث أي منها برائحة الكافور. عندما نُدفن تحت التراب، سنُدفن بلا روائحنا الأصلية. قد تكون للديدان قدرة استثنائية على شم روائح أجسادنا المخبأة تحت رائحة الكافور فتزحف نحونا بحثاً عنها.

عندها، في تلك الساعات الأخيرة من ذاك اليوم الأخير، لن أبالي بما سيتم الاستعاضة عن روائحي به. لكن طالما أنا هنا، ولديّ أنف لا يكف عن البحث في المساحة الواقعة تحت إبطي الأيسر، فلن أتنكر لروائحي... تلك التي أدرك أنها سبب البحث وغايته. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها