الجمعة 2022/08/12

آخر تحديث: 13:39 (بيروت)

تركيا تقود ثورة مضادة في سوريا

الجمعة 2022/08/12
تركيا تقود ثورة مضادة في سوريا
increase حجم الخط decrease
لا مفاجأة في الإحباط الذي ساد بين "الثوار" السوريين بعد حديث وزير الخارجية التركية مولود تشاووش أوغلو عن سعي بلاده لمصالحة النظام والمعارضة في سوريا، ولقائه القصير بوزير خارجية النظام السوري فيصل المقداد، عطفاً على "رعاية" أنقرة طويلة الأمد للمعارضة السورية وعلاقتها الوطيدة ليس فقط بشخصيات سياسية معارضة بل بفصائل عسكرية وإسلامية طوال العقد الماضي.

ومردّ الإحباط هو حقيقة أن الثورة لا تعني المعارضة أولاً، وأن حسابات السياسيين مختلفة عن حسابات الثوار والناشطين والشعوب حتى، ضمن السيستم السياسي القائم الذي يبدو عصياً على التغيير الديموقراطي في الشرق الأوسط، حيث لم تنفع ثورات الربيع العربي ولا أحداث بحجم انفجار مرفأ بيروت 2020 وغيرها من كوارث تراكمت منذ العام 2010 سوى في خلق أحلام بتغيير نحو غد ديموقراطي أفضل، قبل أن تتحطم لسبب أو لآخر، ثانياً.

وفي سوريا التي عمت شطرها الشمالي مظاهرات تعارض التقارب التركي مع دمشق، تصدرت عبارة "لا تصالح" مواقع التواصل، في استذكار لقصة حرب البسوس ووصية كليب لأخيه الزير سالم، كان المشهد كئيباً بسبب مستوى العنف غير المسبوق في قمع الثورة السلمية التي طالبت بالحريات والديموقراطية، قبل أن تتحول إلى حرب أهلية تنتشر فيها جماعات إسلامية متطرفة وتلعب فيها الدول الإقليمية دور الرعاية لأطراف النزاع لأهداف سياسية مختلفة ضمن نظام سياسي عالمي أشمل يعاني للحفاظ على نفسه قائماً.

وضمن هذا المشهد المعقد، لم يعد صوت الشعب الثوري وحناجر ثواره، مهماً، مع محاولة كل جهة احتكار "حق" تمثيل الشعب السوري. وفي كل انعطافة لصديق من أصدقاء الثورة خلال السنوات الماضية، كان الإحباط المعارض حاضراً، من المجتمع الدولي الذي لم يدعم البلاد خصوصاً في ما يتعلق بخطوط الرئيس الأميركي باراك أوباما الحمراء بشأن الأسلحة الكيماوية العام 2013 وصولاً إلى الدول الخليجية التي تسابقت على فتح سفاراتها وإعادة علاقاتها مع النظام الأسدي وليس انتهاء بتركيا التي لطالما مهدت إلى النتيجة التي تحدث اليوم بتصريحات وإيماءات دبلوماسية متعددة، خصوصاً أن نتيحة الحرب نفسها فرضت على الدول واقعاً يجب أن تتعامل معه مهما كان ذلك مؤسفاً وغير عادل.

الثورة السورية نفسها انتهت منذ سنوات عندما نجح النظام السوري في احتوائها عندما قاربت على الإطاحة به، ليس فقط بسبب تحالفه الوثيق مع طهران وموسكو، بل بسبب سيطرته على المركز متمثلاً بـ"سوريا المفيدة" في فترة زمنية كانت الأقسى في البلاد من ناحية حجم المعارك العسكرية. ومع المعارك المتتالية التي انتصر فيها من الغوطة الشرقية إلى القلمون وحلب، كانت مسألة الحسم في الأطراف، الأقل أهمية، مسألة وقت لا أكثر، وهو ما حدث لاحقاً في جنوب البلاد على سبيل المثال، او في شرقها.

وكانت البلاد منذ معركة حلب العام 2016 تعيش صراعاً مجمداً على التفاصيل وليس على المشهد العام، بمعنى أن نظام الأسد ضمن بقاءه في السلطة، ولم يعد حتى رحيله مطلباً من مطالب خصومه الإقليميين. وأنقرة اليوم بحديثها العام عن المصالحة بين النظام والمعارضة تقدم أوراق اعتماد للنظام مقابل موافقته على خطة إقليمية أوسع ربما. وهي تتمة لجهود دبلوماسية أوسع في المنطقة لعبت فيها إيران وروسيا دوراً مهماً خلال السنوات الماضية من خلال إنشاء تحالفات متنوعة تبقى فيها خطوط الغاز ذات أهمية كبرى. وتركيا هنا تكرس نفسها كصلة الوصل بين عالمين، ليس فقط لأنها عضو في حلف شمال الأطلسي "ناتو" بل لأن تمايزها كوسيط يضمن لها دائماً دوراً وحضوراً أثبتته السنوات الماضية.

الثوار السوريون لا يهتمون بكل ذلك، بل يرغبون فقط في الاستمرار بثورتهم حتى النصر. يمكن وصف ذلك بأنها رومانسية ثورية أو تورط عاطفي، لكن لا يمكن لوم أصحابه بقدر ما يمكن تفهمهم والشعور بالأسف لما آلت إليه الأمور في سوريا حيث لن يتحقق أي نوع من الاستقرار حتى مع تحقيق مصالحة بين النظام والمعارضة، أياً كان معنى ذلك الكلام العام. حيث أثبتت تجارب دول الجوار المشابهة أيضاً مرة بعد مرة أن الحلول السياسية الهشة التي لا تحقق العدالة وتعتمد على القمع والتهميش، تؤدي إلى تراكم المظالم السياسية والشعور بالإحباط والانفجار المستقبلي، والعراق على سبيل المثال اليوم، يعيش على شفا حرب أهلية، بينما وصل القمع في دول مثل مصر إلى مستوى غير مسبوق وتونس تنحدر نحو عصر ظلامي جديد.

والمخيف أكثر هنا أن كل تلك التجاذبات تحصل على خطوط الهويات الطائفية، وفيما كان النظام العلوي في سوريا يعقد تحالفات مع مفاصل الطائفة السنية الأكبر في البلاد ويتعهد بحماية الأقليات، فإن ذلك العقد الاجتماعي المشوه فشل، عن عمد ربما، في خلق هوية وطنية جامعة خصوصاً أنه يعتمد على فلسفة شمولية تقول أن "المواطنة تعني الخضوع التام للقيادة" وهو ما لم يعد مقبولاً. وبالتالي فإن نصر النظام ومصالحاته المختلفة تحول البلاد إلى قنبلة موقوتة تنتظر الظرف المواتي للانفجار، بصورة تمرد أو ثورة شعبية جديدة يقوم بها جيل سوري جديد أو أعمال إرهابية أو إعادة انبثاق للتنظيمات السلفية. فيما ستحيا البلاد في ظل ذلك، حالة من التوتر الدائم بشكل مشابه للحالة اللبنانية المتوترة منذ نهاية الحرب الأهلية.

وحتى أولئك الذين أحرقوا الأعلام التركية وهتفوا ضد قيادتها، قد يطاولهم قمع من نوع آخر مع تحول الميلشيات المعارضة إلى أدوات تابعة لتركيا منذ سنوات، مارست ضد السوريين في شمال البلاد انتهاكات وثقتها منظمات حقوقية مختلفة، من بينها الاعتقال والتعذيب. ولم يكن مفاجئاً انتشار بيانات تقول أن العلم التركي مقدس ولا يجب المساس به تحت طائلة الملاحقة الأمنية، حيث أن نموذج الميليشيات الوكيلة بات منتشراً في عموم الشرق الأوسط منذ سنوات، وتقدم النوعية نفسها من القمع الذي يقع المدنيون عادة ضحية له.

وهكذا، فإن استذكار حرب البسوس قد يكون استعارة لفظية مثالية تظهر المدى الزمني الطويل لعدم الاستقرار المتوقع في سوريا. وشعور السوريين العام بالإحباط لا يعني أنهم يرغبون في الانتقام بقدر ما يريدون العدالة التي لم تتحقق في البلاد بعد المجازر وانتهاكات حقوق الإنسان المروعة التي ارتكبها النظام حتى قبل ثورة العام 2011. وللأسف يمكن تعميم ذلك على بقية دول المنطقة مع نهاية الربيع العربي الذي أتى بآمال الديموقراطية على شاكلة ثورات شعبية لكنه انتهى لأن الثورة نفسها، كفكرة مجردة، لم تعد قادرة على التغيير المجتمعي الأوسع من دون قيادات حقيقية وأجندات فكرية وحتى علاقات سياسية أشمل تتخطى الغضب اللحظي ومشاعر القهر المتراكمة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها