الخميس 2022/07/28

آخر تحديث: 11:38 (بيروت)

أراقب الناس ولا أموت همّاً

الخميس 2022/07/28
أراقب الناس ولا أموت همّاً
"مقهى البرج" (مارتن غيسن)
increase حجم الخط decrease
أجلس في كنبة مريحة من الجلد البني الفاتح، في زاوية مقهى قرب المنزل. كلّ يوم، في الوقت نفسه، من الثانية وحتى الخامسة عصراً. أقضي هذا الوقت "الميت" في هذا المكان. حسَنتُه الوحيدة أنه قرب المنزل، فلا أضطر للمشي إلا بضع خطوات لأرتمي في حضن الكنبة الواسعة. أفكر بسخافة مَن قال عن هذه الفترة "ميتة"، لا بد أنه يعني بأنها غير محسوبة من فترة أشغال الناس الصباحية ولا سهراتهم الليلية. فترة من 2 إلى 5 بعد الظهر يقضيها الناس الطبيعيون في قيلولة أو استرخاء تام ومشاهدة التلفزيون، مزيلين عنهم تعب الفترة الصباحية كي يجمعوا طاقتهم للبدء من جديد ومتابعة برنامجهم الليلي مع العائلة والأصدقاء.

أما أنا، وخمسة غيري، فنواظب على استغلال هذه الفترة التي لا يكثر فيها الزبائن في هذا المقهى بالذات. نستغله كي نجلس براحة وهدوء على الكراسي والكنبات الفارغة. نضع السماعات في آذاننا كنوع من الحماية ولمزيد من العزلة. كل منا، من موقعه، يراقب الآخر ويخيط حياة الثاني حسب مزاجه ورغباته. لم نتكلم قط. لكن تواطؤاً ما خُلق بيننا، وكأننا نحتل هذه البقعة من الأرض في زمن نوم الجميع وارتياحهم من عناء اليوم، فنخلق، نحن الستة، حلقة صغيرة نافرة كي نقول إننا هنا. لا نقوم بشيء كل النهار والليل. ونحتفل خلال ثلاث ساعات باختلاف "توقيتنا" عن الآخرين.

طبعاً هذه كلها هلوسات واستنتاجات من رأسي الصغير، تشعرني بالأمان والثقة. ما إن يدخل أحد جديد إلى القهوة، حتى نشعر، نحن الستة، بأننا الأقدمون ولنا أحقية المكان. نبتسم لبعضنا البعض ابتسامات صفراء بسيطة.

أتساءل أحياناً: ما نوع الموسيقى التي يسمعها الآخرون في آذانهم الآن؟ هل يفعلون مثلي أحياناً ولا يشغلون موسيقى البتة، فيمثّلون استماعهم لتفادي الحديث؟

يقاطع أفكاري ، صاحب المحل، صارخاً في النادلة. لا يزجرها لأمر معين. فقط يرفع صوته كي يثبت أنه الآمر الناهي، لا أكثر. لعبة لا يضجر من ممارستها، رغم معرفته بأننا، نحن الزبائن الستة المعتادين، لا نأبه به.

كان يكفي أن تبتسم الفتاة في الزاوية ابتسامة مربكة ويراها بطرف عينه، كي يعلو صوته أكثر، كأن لا وعيه يريد إثبات أنه الأقوى في هذه اللحظة.

هذه الفتاة غريبة بعض الشيء، تسكت لساعات، وفجأة تملّ السكوت وتتكلم إلى من هم وراء الكونتوار من مكانها. قد تحكي فجأة نكتة وتضحك لوحدها. يردون عليها بابتسامة من مكانهم؛ فتهدأ بعدها وتفهم أنهم مشغولون وعليها أن تعود إلى عزلتها مثلنا، لكنها تعيد الكرّة كلّ يوم.

تجلس قبالتها، على يميني، امرأة في أوائل الستينات بلباس رياضي ضيق، شعرها مصفف، تتناول كل يوم قهوتها وطبق بروتين صغير بعد جولة مشي أو ركض قبل الجلوس في مكانها المعتاد. العرق يتصبب من جبهتها المتجعدة. لديها طاقة جميلة بألوان ثيابها المزركشة وضحكتها الرنانة. رأيتها تغمز مراراً للنادل الأسمر. أتساءل أحياناً لماذا يسمّي الناس هؤلاء النساء الجميلات المليئات بالطاقة الإيجابية، بالمتصابيات؟ قرأت بضع مقالات عن موضوع المتصابيات ورأي بعض الناس المجحف بهن. كما أني لم أحب دفاعهن عن أنفسهن بأن أرواحهن ما زالت شابة! لماذا علينا أن ندافع عم فكرة أن نكون ما نحب أن نكون، في لحظة ما؟!

يدخل البائع الصغير، محاولاً بيع المحارم الورقية. يعرف أن أحدنا سيشتري منه، كالعادة. يسأل النادل إن كانت لديهم أكياس زبالة كي يرميها، مشترطاً أن يحضر له شراب فريز وموز مع الكثير من الثلج. يغمزه النادل بنعم، مشيراً إلى صاحب المحل، فيفهم الصغير أن النادل يطلب منه الانتظار إلى ما بعد مغادرة صاحب المقهى، وينسحب. أراه يفتح علبة محارم، يمسح بها أنفه بتوتر ويرميها على الأرض. تقول له الفتاة الجالسة في الزاوية أنه لا يجوز رمي النفايات على الأرض، فيضحك باستهتار كأنه يسخر منها. وأضحك أنا أيضاً في سرّي.

رجل الأعمال بربطة العنق البنفسجية نفسها، يجلس أمام حاسوبه القديم ويعمل. أشعر أنه لا يفعل شيئاً إلا إعادة كتابة سيرته الذاتية مرات عديدة، وكأن مشكلة بطالته سببها فقط نوعية وحجم الخط في سيرته الذاتية. مسكين هذا الشاب. يرتدي ثياباً رسمية، كل يوم، في هذا الحرّ كأنه يتأهب في حال ناداه أحدهم إلى مقابلة عمل في آخر لحظة.

يتمشى الرجل العجوز بين الطاولات لفرد عضلاته. يساعده شاب على المشي. هذا هو عمله: مرافقة العجوز إلى المقهى، كل يوم، وتمشيته إلى الخارج وفي الداخل. العجوز ينظر في عيون الجميع نظرة فضول. يشده مساعده كي يكملا المشي. أبتسم لهما. أفكر أنه مريض ألزهايمر.

أظنه يومي الأخير في هذا المقهى. سئمت الوجوه نفسها، ووَهمَ الأمان بأننا نعرف بعضنا البعض. نحن غرباء، وسنبقى، ولو تقاسمنا نظرات بلهاء وابتسامات شاحبة... ولو عرفتم كم قطعة سكر أضع في قهوتي، ولو تكهنت بحياة كل واحد منكم.. لم ولن أعرف سر أن نأتي كل يوم في الوقت الميت، آملين أن نحيا... قليلاً... بلا همٍّ يُذكَر... إلا المراقبة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب