الخميس 2022/03/31

آخر تحديث: 14:59 (بيروت)

ألم يقل الأسد أنه لا تعذيب في سوريا؟

الخميس 2022/03/31
ألم يقل الأسد أنه لا تعذيب في سوريا؟
increase حجم الخط decrease
"ليس لدينا وحدات تعذيب. وليس لدينا سياسة تعذيب في سوريا" هي كلمات خرجت من فم الرئيس السوري بشار الأسد في مقابلة مع شبكة "روسيا اليوم" باللغة الإنجليزية العام 2019، تلخص إلى حد كبير موقف الدولة السورية من الاتهامات التي لاحقتها بارتكاب التعذيب، ليس فقط بعد الثورة السورية في 2011، بل منذ سبعينيات القرن الماضي عند وصول حافظ الأسد إلى السلطة بانقلاب عسكري. ولا يناقض ذلك الموقف فقط القانون الجديد الذي أقره الأسد ويقضي بتجريم التعذيب في البلاد، بل يخلق أيضاً مزيداً من الكوميديا السوداء عند محاولة التعاطي معه بشكل جدي بعيداً من البحث عن المفارقات ضمن الخطاب الرسمي/الشعبي على حد سواء.

وفيما كان الأسد يتوجه إلى جمهور عالمي باللغة الإنجليزية، عندما أنكر وجود التعذيب في السجون والمعتقلات بحجة أن "لدينا كل المعلومات" ما ينفي الحاجة للتعذيب "السادي"، فإن "روسيا اليوم" هي المنبر الذي يتوجه عبره أي شخص يريد بث أكاذيبه على نطاق واسع يتخطى البُعد المحلي. وكذلك الحال بالنسبة للقانون الجديد الذي يبدو موجهاً للعالم الخارجي وليس الشعب السوري نفسه، وكأنه مبادرة إصلاح سياسي مثل تلك التي قدمها النظام إثر انطلاق الثورة السورية، بصورة قانونين جديدين للإعلام والأحزاب مع تعديل مواد في الدستور السوري مثل المادة الثامنة التي كانت تنص على أن حزب البعث هو الحزب القائد للدولة والمجتمع.



ومثلما لم تؤدِّ تلك القوانين إلى أي تغيير يُذكر في البلاد حينها، فإن قانون مناهضة التعذيب المستحدث لن يؤدي إلى أي تغيير في الممارسات الرسمية التي وثقتها منظمات حقوقية محلية ودولية على مر السنوات. وتفيد "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" بهذا الخصوص بمقتل 14537 سورياً تحت التعذيب من بينهم 14338 شخصاً في معتقلات نظام الأسد منذ العام 2011. كما أن انعدام التطبيق الفعلي للقانون الجديد يماثل مواد قانونية أخرى موجودة بالفعل في سوريا مثل المواد التي تجرم الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري.

ويرتبط التعذيب في سوريا تحديداً بالثورة السورية التي انطلقت في درعا العام 2011 بعد تعذيب عدد من الأطفال الذين كتبوا على الجدران عبارات مستمدة من الربيع العربي الذي عصف بدول الجوار حينها، ما أدى لموجة غضب كبيرة في المنطقة. لكن قصص التعذيب تعود لعقود سابقة، ويمكن تلمس قصص مروعة، سواء من ناجين من المعتقلات، أم من أقربائهم، وتحديداً في فترة الثمانينيات المظلمة، ويكفي القول أن سوريا الأسد قدمت للعالم نماذج للرعب المعاصر مثل سجن تدمر سيء السمعة، أو سجن صيدنايا العسكري الذي تصفه منظمة العفو الدولية "أمنستي" بـ"المسلخ البشري" وبأنه "أسوأ مكان على الكوكب".

ولهذا السبب، كانت قصص الناجين من المعتقلات رائجة في مواقع التواصل، للحديث عما عانوه من تعذيب نفسي وجسدي خلال اعتقالهم. كما كان استذكار صور وأسماء ضحايا التعذيب من قبل أصدقائهم وذويهم، حاضراً للرد على خطاب النظام ومواليه الذين حاولوا عكس صورة إنسانية للأسد شخصياً كقائد نبيل. وكان التأكيد على أن التعذيب ليس حالة فردية عابرة، ضرورياً، للرد على سردية النظام التي تفيد بأن من يقوم بالتعذيب في حال حصوله هم أفراد وعصابات من الخاطفين مثلاً، أو الجماعات "الإرهابية" المعارضة، وأفراد يعدون على أصابع اليد الواحدة في الفروع الأمنية ومخافر الشرطة، وبالطبع فإن التعذيب الذي تقوم به الفئة الأخيرة لا يتعدى صفعة على الوجه أو ما شابه و"ليس تعذيباً يرتقي إلى مستوى التعذيب في السجون الأميركية"!



ومن المفارقات أيضاً، أن النظام وقّع على معاهدة حظر التعذيب منذ العام 2004، من دون أن يُترجم ذلك إلى قانون محلي أو ممارسات فعلية. ومازال النظام يرزح تحت عقوبات قانون قيصر الذي فرضته الإدارة الأميركية على النظام السوري في حزيران/يونيو 2020، بسبب قتل النظام السوري آلاف المعتقلين السوريين تحت التعذيب، والموثقين بالصور والتواريخ، بعكس ما كان عليه الحال قبل الثورة السورية عندما كانت قصص التعذيب أقرب إلى "أساطير شفهية" متناقلة وغير موثقة بهذا الكم من الدلائل والإثباتات.

والسؤال المطروح هنا هو ما الداعي لإصدار قانون يجرم التعذيب في سوريا إن كانت الدولة السورية على كافة المستويات تنكر وجود التعذيب في البلاد كسياسة ممنهجة؟ الجواب قد يكون مرتبطاً بمحاولة تعويم النظام وعصرنته، خصوصاً بعد زيارة الأسد الأخيرة للإمارات. ومن جهة ثانية يمكن تفسير الأمر من ناحية تخص طبيعة الأنظمة الاستبدادية نفسها، حيث تصور السلطة نفسها مجدداً بمظهر الحامي للمجتمع والأفراد حتى في وقت انهارت فيه تلك السلطة وتفتت فيه الدولة بمفهومها التقليدي بفعل الحرب، ما جعل سوريا دولة غير موجودة بل مقسمة على مستويين. الأول بين القوى الفاعلة ضمن ثلاث كانتونات، واحد للنظام وثان للأكراد وثالث للفصائل المعارضة/الجهادية. والثاني ضمن مناطق النظام التي تفتت إلى مناطق تحكمها المليشيات والقوى المحلية النافذة.

وعبر فرض قوانين شكلية تخص عموم البلاد، فإن السلطة الأسدية التي باتت تظهر بصورة عصابة المافيا من دون رتوش تجميلي، تذكّر نفسها قبل أي أحد آخر بأنها موجودة. ويصبح القانون تجريماً لما يقوم به الآخرون وليس ما تقوم به هي، طالما أنها لا تعترف بوجود التعذيب من أساسه لديها. ومع معرفة الجميع بوجود التعذيب كسياسة لا يتحدث عنها أحد من الموالين على الأقل، فإن السلطة نفسها تصبح مصدر الخوف والحامي منه والرادع له في الوقت نفسه، لأن شرط الطاعة للسلطة، نظرياً، ينفي العقوبة. ويحدد ذلك المنطق، متضافراً مع النص القانوني الجديد، موقف الموالين للنظام من قضية لا يجب أن تثير في الأساس جدلاً أخلاقياً: التعذيب فعل خارجي والدولة تحمينا منه. وفي حال حصوله من قبل الدولة فإنه فعل ضروري من أجل الأمن القومي ولولاه لحصل ما هو أسوأ.

هذا الموقف ليس جديداً بعد القانون بل كان حاضراً طوال سنوات، عند محاصرة الشخصيات الموالية بالأسئلة المحرجة، مثلما حصل مع الممثلة سلاف فواخرجي في مقابلة مع شبكة "دويتشه فيلله" الألمانية العام 2020 على سبيل المثال والتي كانت مثالاً صارخاً على معنى العقد الاجتماعي المشوّه في سوريا الأسد، القائم على ثنائية الخوف – الحماية، وعبره يتم وسم المتعرضين للتعذيب بالعمالة وتصويرهم عموماً كمصدر للخطر، ما يجعل السلطات بقيامها بعمليات الاعتقال والتعذيب، الذي لا يتم الاعتراف به صراحة، مصدراً للاستقرار.



تدل على ذلك نقاط عديدة، أشار إليها حقوقيون سوريون. فالقانون لا يطاول "أفعال التعذيب الخفيف الذي لا ينجم عنها ألم جسدي أوعقلي شديدين والتعذيب المعنوي كالشتائم والإهانات لا تشملها أية عقوبة منصوص عليها في هذا القانون". كما أن هناك مواد قانونية أخرى تعارض النص الجديد مباشرة، مثل المادة 16 من المرسوم التشريعي رقم 14 للعام 1969 المتضمن إحداث إدارة أمن الدولة وتنص على أنه: "لا يجوز ملاحقة أي من العاملين في الإدارة عن الجرائم التي يرتكبونها أثناء تنفيذ المهمات المحددة الموكلة إليهم أو في معرض قيامهم بها إلا بموجب أمر ملاحقة يصدر عن المدير". أو المادة 74 من المرسوم التشريعي رقم 549 لعام 1969 المتضمن قانون التنظيمات الداخلية لإدارة أمن الدولة: "لا يجوز ملاحقة أي من العاملين في إدارة أمن الدولة أو المنتدبين أو المعارين إليها أو المتعاقدين معها مباشرة أمام القضاء، في الجرائم الناشئة عن الوظيفة، أو في معرض قيامه بها قبل إحالته على مجلس التأديب في الإدارة واستصدار أمر ملاحقة من قبل المدير".

وعليه، لا يعتبر القانون صحوة أخلاقياً مفاجئة ولا نقداً ذاتياً ولا إقراراً بالكذب حتى على الإعلام الأميركي، عندما وصف الأسد شخصياً في مقابلة مع "ياهو نيوز" العام 2017 تقارير منظمة العفو الدولية "أمنستي" عن سجن صيدنايا وتقارير "هيومن رايتس ووتش" وصور قيصر، بالكاذبة، لعدم وجود تعذيب في البلاد، ما يجعل صور القتلى تحت التعذيب صوراً ملفقة عبر برنامج "فوتوشوب"، لأن القانون يخص التعذيب غير الرسمي، والحوادث الفردية لا أكثر. وهنا تبرز تصريحات الأسد عن التعذيب العام 2019: "إذا تحدثت عن حوادث فردية، فإنها مجرد حوادث فردية يمكن أن يقوم بها أي شخص بدافع الانتقام، أو لأي سبب آخر، ويمكن لذلك أن يحدث في أي مكان في العالم. لكن ليس لدينا مثل هذه السياسة". 


increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها