الأربعاء 2022/03/30

آخر تحديث: 21:45 (بيروت)

مَوت سميرة الذي نريده جميعاً

الأربعاء 2022/03/30
مَوت سميرة الذي نريده جميعاً
(لوحة آنا فالديز)
increase حجم الخط decrease
ماتت سميرة، المرأة التي رأيتها ذات صباح قريب تمشي بخطاها الثقيلة وسنواتها السبعين إلى شقتها. قرأت اسمها في صفحة الوفيات. سميرة التي لم أتبادل معها أي كلمة من قبل. كانت مجرد إيماءات، أومىء لها بما يشبه تحية وتعويضاً عن معرفة لم ولن تكتمل، رغم السنوات الطويلة التي جمعتنا في مبنيَين متجاورين.

لِمَ أكتب عن سميرة إذاً؟ وأنشغل بموت امرأة لم أر مرةً وجهها من قرب، ولم أسمع منها سوى صوت مياه تتدفق إلى الشارع من مزراب شرفتها في الطابق الثاني، المزدحمة بأصص النباتات بعد أن تنظفها، تشذب نباتاتها وتسقي زهورها. كيف ماتت سميرة؟ لَمْ تنتحر سميرة. وربما لم تخطر لها تلك الفكرة مطلقاً طوال حياتها التي لم تخلُ يوماً من الضيوف والأقارب.

لم تنتحر سميرة، مثلما فعل الكثيرون في السنوات الأخيرة، وكما فعلت سارة، الطفلة التي انتحرت منذ أسابيع ودُفنت من دون صلاة، طفلة رأت الوجه القاتم للعالم باكراً. وكأن هؤلاء الشيوخ الذين رفضوا الصلاة عليها لا يعيشون معنا في هذا العالم المعتم الموحش المخيف... لم تختفِ سميرة، ولم يبحث عنها أحد لأسابيع وشهور، لم يجدوها في حفرة، ولم تُدفن مرتين كما دفن يوسف نوفل قبل أسابيع، مرة بأيدي قاتليه، والثانية بيدَي من منحه الحياة، والذي قُدر له بعدها ألا ينسى رائحة التراب الممتزج بالمطر، أن يعيش مع الموت الذي يَحضُر فيَفقِد كل شيء معناه... وهل تصلح الحياة للحياة بعد موت الأبناء؟ هل يهدأ الغضب؟ وينتهي الحنين؟

يوسف، سبقه كثيرون، منذ اختطاف ناصر جمول مقابل فدية في 2013، ناصر الطفل الذي تُرك ليموت من الجوع والعطش والخوف، ولم يُحاسب أحد للآن. مروراً بريان ووسيم وأسعد ومجد وصقر وياسر وعمران ورواء وغيرهم، وكرم الذي كتب ولحن قبل أن يُقتل نبوءته: "وضعوا على فمي شريطاً لاصقاً، ويداي أصبحتا مقيدة بالكامل، لقد هُجّرت بعيداً... يا طيفي أينك؟ يا كل الرصاص يُهشمني...". عُثر على كرم مقتولاً ومكوماً في صندوق سيارة، وما زال أبوه يناجيه للآن منتظراً عدالة لا تأتي، مُنتظراً القبض على قتلة يتجولون بيننا... عشرات غيرهم خُطفوا وقُتلوا ولا حساب، هُدرت أرواحهم هباء بلا ثمن.

سميرة أيضاً لم تصب بالكورونا، ولم تعانِ أعراضها، ولم تُنقل للمستشفى العام لتبدأ رحلة علاج تنتهي حتماً بالموت. الناس هنا يخافون من دخول مستشفى تخلو من الأطباء والأدوية والأوكسجين، يخافون من أدوية يُقال أنها تخفض المناعة أكثر من خوفهم من الفيروس نفسه...

لم تُقتل سميرة في بيتها على يد أحد أخوتها أو أقاربها أو أولادها أو جيرانها نتيجة عراك، أو طمعاً في مالها، كما حدث ويحدث في هذا المدينة التي أُغرقت بالمخدرات والأسلحة... نجت من لعنات هذا المكان من جرائم الشرف من الخطف والقتل، من رصاصة طائشة، نجت من البرد والفقر والجوع والظلام والذل، من لعنة الانتظار... مضت سميرة بلا ضجيج، بلا صراخ وبلا ألم وبلا بكاء، لم تُنتزع انتزاعاً من هذه الحياة. عجوز في فراش دافئة، ربما كما يفترض أن نموت جميعاً، ميتة إنسانية. أو كما نريد، موتاً، لا بد من قبوله.

ذئاب بعيدة تعوي بأصوات تشبه بكاء البشر، ولا شيء يُرى سوى عتمة كاملة، وكأنه العدم. يتدفق الماء من المزراب، لقد أكملت السماء المهمة هذه المرة... في صفحة الوفيات سبعة أسماء أخرى، لا أعرف أحداً من أصحابها، لكن رعشة حزن أصابتني وأنا أسمع صوت الرياح والمطر وأتساءل كيف مضى كل منهم؟ وهل حالف أحدهم الحظ بأن يعتني بزهوره؟ ونحن؟ ماذا عنا؟
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها