الثلاثاء 2023/09/12

آخر تحديث: 22:34 (بيروت)

حفلة لست مدعوة إليها

الثلاثاء 2023/09/12
حفلة لست مدعوة إليها
أبو مهند المُغيب ظلماً، وذلك أصل الحكاية كلها
increase حجم الخط decrease
يوم الجمعة، أستيقظ نشيطة، قلبي ينبض بسرعة وعيناي تلتمعان كأيام الحب الأولى، لا أعرف لماذا. كلّ ما في الأمر أني سأذهب إلى حفلة لست مدعوة إليها!
الحفلة في ساحة وسط المدينة، في الهواء الطلق.

أفتح خزانتي، وَسريعاً أختار بنطلون جينز وتي شيرت بسيطة، نظارتي الشمسية، كاب للرأس، فجزء من الحشد سيقف تحت أشعة الشمس. أرتدي حذاءً رياضياً، حتماً، لأني سأذهب وأعود مشياً، لا حذاء بكعب عالٍ، ولا عربة تُقلني مثل ساندريلا، ولا أحد أودُّ لقاءه، بل لا أعرف مَن سيكون هناك!

لا شروط للمشاركة، فالحفلة تتسع للجميع بلا استثناء، الكبار والصغار، النساء والرجال، وَكل من يقطن سفوح هذا الجبل البركاني، بل وأبعد من ذلك بكثير، بإمكانه المجيء وَمن دون أن تُوجه إليه بطاقة دعوة.

اليوم ليس الأول للحفلة. فرح جماعي بدأ قبل أسابيع وما زال يُقام كل يوم، صباحاً ومساءً، والذاهبون إليه يزدادون حماساً وإصراراً. معظم المشاركين لا أعرفهم، لا علاقات صداقة ولا قرابة، ولا حتى صداقة فايسبوك، أمر واحد يجمع المشاركين ويوحدهم، الأمل...

أسابيع والحفلة لم تتوقف، ورغم ذلك تبدو الساحة أنظف، أكثر اخضراراً، وأجمل بكثير. أناسٌ سعداء، هواء طلق، وَرائحة زكية! موسيقى وأغان، لوحات ورسم وكاريكاتير أيضاً.

بعد ثلاثة عشر عاماً من الحرب، بعدما وصل الخراب إلى نفوس البشر، بعد أعوام طويلة لم يفارق فيها صوت الرصاص فضاء المدينة التي انقلبت إلى مخزن للأسلحة والمخدرات.. بعد ذلك كله، ها هم يحتفلون، نساء باللباس التقليدي، يرتدين بدلة العربي، يزغردن، ويغنينَ، فالعرس الذي كنّ بانتظاره، منذ عقود، يُقام أخيراً.

ترفع إحداهن صورة أخيها، اليوم عرسه، والعريس لن يأتي أبداً، لأنه قُتل قبل سنوات في المعتقل. اليوم صار بإمكانها أن تزغرد وتفرح، صار بإمكان كل ذلك الحزن أن يخرج، بلا عودة. ليست الوحيدة، ثمة كثيرات غيرها.

بيان الحناوي، السبعيني الذي أمضى عقدين من الزمن في تلك السجون، عقدَين ثمناً لسؤال، سؤال عن العدو الحقيقي للسوريين، اليوم فرحه المؤجل أيضاً. بيان الذي انتظرته أمه، مُضيئة لمبة شرفتهم ليلاً لسنوات طويلة، إذ ربما يعود يوماً ما في العتمة، فيهتدي. ما زال الأمل يلمع في عينيه الطيبتين، في كلماته، في قوته، في إرادة لم يَتمكن وحوش من كسرها.

صورٌ وأَسماء تُرفع لمغيبين قسراً، لشهداء قُتلوا غدراً، ترتفع صورتا صقر وياسر الطويل الشهيدين، تجلس أمهما المُتعبة بين الحشود، فقدت ولديها الشابين معاً، وَها هي اليوم تَستعيدهما... صورة ريان أبو فخر، المهندس الذي دفعته نخوته وحبه للدفاع عن أبناء بلدة القريا، ليصير شهيد الكرامة، شهيد الفزعة.

شهداء وشهداء وصور لم تُرفع أيضاً، نورس أبو سعيد، الذي عاد قتيلاً بعد ثلاثة أشهر من الاعتقال. لا أب يرفع صورته، فوالده مُدرّس العلوم قُتل بعدها إثر هجمات "داعش" على السويداء، هجمات وتفجيرات تركت وراءها مئات الشهداء والعائلات المنكوبة.

في الحفلة آباء وأمهات وأقرباء لعشرات خُطفوا وقُتلوا من أبناء السويداء، ليبقَى الخوف جاثماً فوق الصدور... ومَن لم يعرف الخوف والظلم والذل والغدر في بلادنا؟

يقف بسام عزي بين المنتفضين، أحد عشر عاماً تمر أمام عينيه، سنوات قضاها ظلماً في المعتقل، لا يريد لآخر أن يمر بتجربة مماثلة، لم يفقد الأمل في التغيير، ولم ينكسر.

مئات استشهدوا بداية الحرب، قبل أن تتخذ المحافظة موقف الحياد، وتمنع أبناءها من الخدمة العسكرية الإلزامية والاحتياطية في العام 2014. صورُ الشيخ وحيد البلعوس، مؤسس "رجال الكرامة"، حاضرة، وهو من احتاجَ قتله لتفجيرين هزّا السويداء، وضياع أشلاء العشرات من أبنائها.

لا قائد للحفلة ولا تنظيم، وكلمات الشيخ حكمت الهجري تختصر معناها، نحن طُلّاب كرامة، ولا شيء آخر. مئات استشهدوا بداية الحرب، اقتيدوا إلى حتفهم قسراً للقتال على جبهات متعددة في الحرب الأهلية. والزمن يعود بنا للوراء، لا كهرباء ولا ماء ولا تدفئة، حتى أشجارنا التي كبرنا في ظلها، انتزُعت من أرضنا. الزمن يعود للوراء ويُرفع علم الموحدين مجدداً، علم الثورة السورية الكبرى، علَم للخلاص من الظلم، رفعه سلطان باشا الأطرش، والخوف هو المدفع الذي أُغلقت فوهته، لتكتمل اللوحة هذه المرة.

غياث مطر، سميرة الخليل ورفاقها، رانيا العباسي وزوجها وأطفالها الستة، الناس الذين سلبت أعمارهم في السجون، المقهورون والمظلومون وكل من بكى على هذه الأرض... حاضر في ساحة الكرامة، ساحة السوريين. القهوة المُرّة، التفاح والعنب، ثروات أرضنا التي نُهبت، "جنة يا وطننا" حاضرة في الحفلة أيضاً.

"بدي ابني" كتبها رجل على صدره، ودموع القهر تملأ عينيه. ابنه، مهند صياغة، المُغيب ظلماً، وذلك أصل الحكاية كلها. نحن أيضاً "بدنا أولادنا"، لا نريد أن يعيشوا مثلنا مجردين من كل حقوقهم، ومن أصل الحقوق جميعها، من الكرامة، كرامة الذات الإنسانية.

مَن يجهل طعم الحرية ويرفضها، فاقدٌ للإحساس بالحياة، يقولها أحمد شوقي للمتسائلين عن الحرية ومعناها. لم أتلقَ دعوة من أحد للمشاركة، إلّا أنَّ رائحةً زكية تنبعث من هناك، من ساحة الكرامة، رائحة لم يعرفها السوريون منذ نصف قرن، وهو ما جعل قلبي يخفق لهفة، رائحة تجعل الإنسان، إذا اختبرها، لا يبادلها بأي ثمن، لأن "العز، كلَّ العز، في الحرية".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها