ليته يموت مرتين

لا أستطيع أن أبكي ليلاً. نهاراً سيضحكون عليّ، أعرف.
أعرف سيهزأون. في سنّي، البكاء ترف مسموح في المناسبات فقط.
أشارك في كل مناسبات التعازي، ولا أحد يعرف السبب غيري. أنهار على ميّت لا أعرفه. أتمرمغ على قبره وأبكي. يتغامز أهله وأصدقاؤه. أراهم يبتسمون. ينسون حزنهم وأغوص. يقتلهم الفضول. تجلدني الأفكار.

يعود الجميع إلى منازلهم ويتركون الميت في حضني. أصرخ في المقبرة وحيدة، السواد يضيئني من الداخل. لم أسمع صدى لصراخي إلا عويل حيواتي السابقة.

- تبكين على فراقي! هل يؤلمك البُعد؟ نطق الميت.
- يا لك من مرهفة، تبكين أحزان الغرباء.

أكمل نحيبي كأني لا أسمع شيئاً.

- تبكين الفقراء، ضحايا الحروب، المشردين، المهمشين، محطَّمي الأحلام والآمال! تبكين علاقات الحب السامة، النساء وحقوقهن المهدورة، تبكين نيابة عن رجال اختنقوا ولم يذرفوا دمعاً كي تصفق لهم شبيهات النساء؟

الأمهات يعجنَّ مسوخاً، أصلاباً، ينفخون هشاشتهم في الهواء، جراثيم تقتل النبات والبشر والحجر.
هل يصبح الميت فيلسوفاً عندما يغمض عينيه؟!
ثرثرته تصيبني بالغثيان، سأنفجر، لن أنفجر، لم أبكِ ما يجعلني خفيفة كي أتحرك بعيدة عنه وأرجع بينهم.
المقبرة، حسبتها فكرة عبقرية.
تلتفّ أرواحهم حولي. ليتهم يخرسون.

- هل تعرضتِ للاغتصاب؟ هل مات طفلك؟ أصبت بحادث وتشوّهتِ؟
تكمل أبواق الهرطقة، شعارات، كلمات بيضاء لا لون لها.

سيكمل هذا الغبي حتى يصل إلى كلمة "وطن" فينفجر بخطابات رنانة يرددها كل المنتحرين: خذلك الوطن؟
"الوطن هو المكان الذي نرتاح فيه"، يردّد الأموات. "الوطن هو المكان الذي دهسنا"، يكملون. خطابات، جُمل ونقيضها، كل الوقت. لا أفقه شيئاً. أضع يديّ المرتجفتين على أذُنيّ الصغيرتين، أخبئهما.

- لاااااا... لا أبكي على كل ما ذُكِر.
يكبر أنفي، يطول. أضع يدي فوق عيني، أشد على جفني كي لا أرى شفاههم الزرقاء وعيونهم الجاحظة. أشعر بالبرد، ليتَني لم آتِ. أشعر بهم يخرجون من مساماتي، يمزقون ما تبقى مني.

أختار مَن أريد أن أكون، أتكوّر داخل رحمي وأبكي.
أصرخ. لا أريد أن أخرج. أبكي ليلاً نهاراً. لا يضحكون. لا يهزأون. لست سوى نطفة يُحدّثها ميت عن أوجاع وصلتها قبل أن تولد.
ليته يموت مرتين هذا الغبي، ببغاء مآسي البشر.