الثلاثاء 2022/10/18

آخر تحديث: 16:13 (بيروت)

الأسديون يعايرون الغرب: "أنا سوري آه يا نيالي"

الثلاثاء 2022/10/18
الأسديون يعايرون الغرب: "أنا سوري آه يا نيالي"
الصورة المتداولة لضرب امرأة في باريس
increase حجم الخط decrease
"11 سنة حرب وحصار في سوريا ولم نسحل بعضنا على الكازيات، ولم تتوقف مدارسنا وجامعاتنا عن تقديم الخدمات. يحتاج الغرب الأوروأميركي إلى 100 ألف سنة ضوئية ليلحق بنا في ركب الحضارة، ولن يلحق، فمورثاته وصبغياته معجونة بالعنف والقسوة واللإنسانية". هذه العبارة كتبتها إحدى الأسديّات في "فايسبوك" ضمن عشرات المنشورات التي يضخها إعلاميو النظام السوري ومشاهير يدورون في فلك الممانعة، يومياً في مواقع التواصل ضد قيم الحرية والديموقراطية، بالتوازي مع الاحتجاجات الشعبية في إيران خلال الأسابيع الأخيرة.


لا يمكن بالطبع تصديق تلك العبارة، حتى من قبل الموالين للنظام أنفسهم. لأن مشاهد الشجار والقتال للصعود في السرافيس وسط أزمات النقل والمحروقات المستمرة في سوريا منذ سنوات، لم تغب عن الأذهان لأنها ما زالت دائمة الحضور. كما أن العنف اليومي للشرطة والجيش والميليشيات قدم صوراً لا يمكن أن تمحى من الذاكرة للحضارة الأسدية القائمة على المعتقلات والسجون والمسالخ البشرية والمقابر الجماعية وتدجين الأطفال في المدارس وخطاب العنصرية والكراهية والكذب، على المستوى الدبلوماسي والإعلامي.



وبات مروجو الدعاية الأسدية هذه الأيام ينشرون بشكل ممنهج ومتفق عليه مسبقاً، كما هو الحال في أي دولة شمولية، صوراً ومقاطع فيديو يقولون أنها تظهر الوجه القبيح للغرب الذي يحاول تفكيك دول المنطقة، حسب وصفهم. من دون عقد مقاربات مباشرة مع الحال في إيران، بوصفها حليفة أساسية لدمشق، حيث باتت الاحتجاجات الحالية أكبر تحد يواجه نظام الملالي الديني منذ العام 2009 عندما رفض الإيرانيون نتائج الانتخابات الرئاسية في ما بالثورة الخضراء.

واحد من أولئك الأسديين هو الممثل الموالي عديم الموهبة، معن عبد الحق، الباحث عن الأضواء بأي ثمن، حتى لو كان تقديم التهريج السياسي الأجوف في "فايسبوك" بما يضمن له مقابلات مع وسائل إعلام النظام السوري أو حلفائه في دول المنطقة، للظهور على الشاشة الصغيرة حيث لا يتابعه أحد على الأغلب حتى لو توافرت الكهرباء اللازمة لذلك الحضور. ويبث عبد الحق يومياً مقاطع فيديو وصوراً يسخر فيها من الشتاء الأوروبي، كصُوره أمام الغاز المشتعل في مطبخه أو أصابع يده التي يضعها على مفتاح الكهرباء وغير ذلك من تفاهات.



وفي مقاربة مع الاحتجاجات الجارية في إيران التي رفعت شعار "المرأة الحياة الحرية" نشر عبد الحق صورة قديمة لشرطي فرنسي يلكم امرأة في تظاهرة شهدتها العاصمة باريس العام 2016 وكتب في ما يفترض أنه سخرية عميقة "الثورة امرأة". ورغم أن الصورة حقيقية، فإن السياق التي تنشر فيها مضلل وزائف، فهي أولاً لا تحدث ضمن تظاهرات حالية في فرنسا احتجاجاً على ارتفاع أسعار الطاقة، كما أن ربطها بأسعار الطاقة الحالية والتفوق الروسي بعد الحرب في أوكرانيا، مضلل أيضاً، خصوصاً أن الاحتجاجات الحالية في فرنسا بما في ذلك إضراب عاملين في مجال النفط لا علاقة له تقنياً بنقص إمدادات الغاز الطبيعي في فرنسا، بل له علاقة بالرواتب والأجور.

بالمثل، نشرت شخصيات عاملة في وزارة الإعلام، من بينها المستشار السابق مضر إبراهيم، الصورة نفسها مع مقاربات بين الغرب ودول محور الممانعة. بالنسبة لهذه العقلية التي لا أمل منها على الإطلاق، فإن الغرب يدعي احترام الحريات والدفاع عن حقوق الإنسان ويروج لها في الشرق الأوسط بينما تلك القيم مجرد أكاذيب بدليل الصورة "التي تحاول الدولة العميقة إخفاءها". ولا يتحدث أولئك بالطبع عن سيستم المحاسبة وملاحقة الشرطة الفاسدة وتعريض المسؤولين للمساءلة وغير ذلك مما تتضمنه الديموقراطية، في فرنسا ودول غربية أخرى. بل ينطلقون من الصورة لتعميم اتهامات الخيانة ضد الصحافيين المستقلين والمحتجين في الشوارع التي يصادف أن تكون في إيران هذه الأيام، إلى جانب تعميم نظريات المؤامرة الكونية التقليدية.



بالطريقة نفسها، لا تمر نشرة أخبار واحدة في التلفزيون السوري من دون خبر أو تقرير يرصد نقص البنزين والمحروقات في فرنسا، وانتشار الطوابير والفوضى أو سخرية من احتمالية انقطاع الكهرباء في عاصمة الأنوار، لدرجة أثارت استياء وسائل إعلام محلية موالية من كمية التركيز على الأخبار الأوروبية مقابل إهمال الواقع المحلي، حيث لا ينتشر وباء الكوليرا بشكل متسارع فقط في سوريا بحسب الأمم المتحدة، بل أيضاً ينتشر الفقر والجريمة والمليشيات ويغيب حضور الدولة إلا من ناحية البلطجة وقمع الأفراد بالطبع، وظهر ذلك بوضوح عندما شكر عضو مجلس الشعب ناصر الناصر المهربين بين سوريا ولبنان على تأمين الغاز المنزلي في مقابل التقصير الرسمي، قبل أسابيع، ملتقطاً صورة سيلفي معهم.

وكل هذه النوعية من الدعاية رغم أنها تثير الضحك بسبب كمية أكاذيبها ولغتها أيضاً، فإنها أيضاً تعطي لمحة عن كيفية صناعية الدعاية في الدول الشمولية. فهذه المصادر تأخذ معلومات حقيقية مثل الصورة الملتقطة في باريس ويتم تزييف السياق المحيط بها بالكامل أو نقله مجتزاً، مع إضافات تظهر الجانب المشرق للحياة في دول شمولية كسوريا وإيران. ولا يعتبر ذلك مجرد رفاهية رسمية بل هو ضرورة لأن هناك حدثاً يجري في المنطقة بصورة الاحتجاجات لا يمكن فقط التعتيم عليه وتجاهله، بسبب حجمه وحضوره الطاغي في وسائل الإعلام الدولية ومواقع التواصل الاجتماعي، وتصبح هذه الدعاية هي الطريقة المتبعة للتعامل مع الموضوع ليس فقط لتلطيخ سمعة المحتجين بالوحل، بل أيضاً لتسفيه القضية والتهريج عليها أيضاً.

يذيل الأسديون غالباً منشوراتهم بـ"أنا سوري آه يا نيالي"، في استرجاع لأغنية الممثل الراحل عبد الرحمن آل رشي التي قدمها العام 1996، وتحولت بعد الثورة في البلاد إلى نشيد يجمع الأسديين مع بعضهم البعض مع اعتمادها من قبل الإعلام السوري الرسمي كواحد من شعاراته المفضلة. وهذا الشعار بشوفينيته المتخيلة والجوفاء اليوم يفترض أن الحرب الكونية على سوريا تعود إلى الحضارة السورية التي يريد الغرب تشويهها لأنه يخاف منها ومن جبروتها في حال امتلاكها للقوة.

بالطبع، لا يمكن فهم الاعتزاز والفخر القومي عموماً في العام 2022 مع سقوط القوميات وظهور المواطن العالمي بفعل الإنترنت. تلك الفكرة، إلى جانب قِدَمها تحمل عنصرية مبطنة، وحتى بتجاوز هذه الجزئية، لا يمكن فهم وجود هذا الشعور في دول مثل سوريا تحديداً لأن النظام لم يُبقِ شيئاً يمكن الاعتزاز به، نظرياً على الأقل، من ناحية الصورة الأشمل للدولة وشخصيتها المتمثلة بالقيود والانغلاق والقمع والرعب اليومي والفساد والتخلف، ليس فقط في العقد الأخير بعد الربيع العربي بل منذ عقود كثيرة تحولت فيها البلاد إلى سجن كبير.


على أن تعميم هذا الوهم من قبل الإعلام الرسمي ليس عبثياً، بل هو عمل ممنهج المقصود منه خلق تورط عاطفي مع فكرة الوطن عبر اللعب على المشاعر الفردية مثل ذكريات العائلة والطفولة إلى جانب القيم المحافظة والدينية للتأثير على الجمهور الأوسع. وعبر التركيز عليه يتم التعتيم على كل ما هو مهم فعلاً، مثل الحريات الفردية واحترام حقوق الأفراد في اختيار ما يناسبهم، والمساواة أمام القانون وحرية التعبير وإمكانية محاسبة المسؤولين والسعي نحو العدالة وغير ذلك.

بالطبع يضخ الأسديون سمومهم اتجاه من يمتلك أفكاراً مماثلة في أرجاء المنطقة من أجل احتكار فكرة الوطن والتلاعب بها وفق مصلحتهم الخاصة. الفينيقيون في لبنان ممن يعتزون بلبنانيتهم أكثر من اللزوم، ويرون في لبنان بلداً يجب أن ينفصل عن محيطه العربي، مثلاً، ينالون سخرية الأسديين بوصفهم عملاء للغرب السفيه الفاجر. وبالمثل يواجه الأكراد السوريون أو العراقيون التقريع نفسه بوصفهم خونة. والمطلوب بالتالي هو إبقاء السيستم السياسي مثلما هو والادعاء بأن لا مشكلة تجري على الإطلاق، وإن كانت هناك مشكلة فهي مشكلة خارجية فقط.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها