الثلاثاء 2022/10/18

آخر تحديث: 16:28 (بيروت)

جيفري دامر: شيطان طليق في "نتفليكس"...لمَن يُنتَج هذا الرعب؟

الثلاثاء 2022/10/18
جيفري دامر: شيطان طليق في "نتفليكس"...لمَن يُنتَج هذا الرعب؟
increase حجم الخط decrease
عبر مكبّرات الصوت في إحدى صالات البولينغ، تتردد في الليل الإيقاعات الغريغورية لأغنية "حزن" لفرقة "إنيغما". إنه العام 1991 والغارة الإجرامية لجيفري ليونيل دامر، "آكل لحوم البشر من ميلووكي"، كما أطلقت عليه الصحافة حينها، على وشك الانتهاء.

حكايته المأساوية والفظيعة يرويها مسلسل قصير يُعرض في "نتفليكس" بعنوان "جيفري دامر" (Monster: The Jeffrey Dahmer Story)، من بطولة إيفان بيترز وتأليف إيان برينان ورايان مورفي، والأخير هو صاحب المسلسل الشهير "قصة رعب أميركية". المسلسل الجديد هو أيضاً، بطريقته الخاصة، قصة رعب أميركية، رغم أن المُرعب هنا يتجلّى بغيابه فيما أشكال الظلام ترسم صورة ظلّية حقيقية قاتلة.


الشابّ الذي بين العامين 1978 و1991 قتل وقطّع أوصال 17 شخصاً إضافة إلى ممارسات أخرى مثل أكل لحوم البشر ومجامعة الموتى وجمع رفات بشرية، غذّى من قبل أخيلة كتّاب السيناريو وصانعي الأفلام في العديد من المشاريع الفنية، بداية من فيلم الرعب الرائد "الحياة السرّية: جيفري دامر" (1993، دايفد بوين)، الصادر في الولايات المتحدة بعد عامين فقط من اعتقاله وقبل وقت قصير من مقتله على يد مُدان آخر، وصولاً إلى فيلم "صديقي دامر" (2017، مارك مايرس)، إضافة إلى ما قد يكون أفضل عمل سينمائي اقترب من الشخصية، "تربية جيفري دامر" (2006، ريتش آمبلر). من دون احتساب الأفلام الوثائقية المختلفة ومسلسلات الجريمة الحقيقية المُنتجة على مدى العقود الثلاثة الماضية.

والحال أن الحياة الإجرامية للقتلة المتسلسلين تولّد اهتماماً لا يقاوم، في منتصف الطريق بين الجاذبية والنفور. سواء كان ذلك بدافع الفضول البسيط أو المَرَضي، أو ربما كوسيلة آمنة للتعامل مع أكثر الهاويات التي يصعب فهمها من الأهوال التي يستطيع البشر اقترافها بأيديهم. المؤكد أنها "بيّاعة" ولها جمهور، في الولايات المتحدة كما في لبنان.

قام مورفي وبرينان ببناء سردية دامر بطريقة منهجية، عبر عشر حلقات تتأرجح ذهاباً وإياباً، من طفولته إلى وقت إلقاء القبض عليه العام 1991، من مراهقته المضطربة إلى فترة خدمته القصيرة في الجيش، من حياته مع والديه، دائماً في نقاش أبدي حول القضايا الكبرى والثانوية، إلى الفترة التي قضاها في منزل جدته لأبيه، قبل الانتقال إلى الشقة المصيرية حيث ارتكب معظم جرائمه.

تبدأ الحلقة الأولى في ملهى ليلي للمثليين في ميلووكي، حيث تلعب أغنية إنيغما إياها في الخلفية، قبل أن تفسح المجال لأغنية راقصة أخرى من أوائل التسعينيات هي "Gypsy Woman" للمغنية كريستال ووترز. لكن الشاب الذي "يصطاده" جيف ويعود به إلى شقته سيكون آخر حلقة في سلسلة جرائمه الوحشية، ولن يصير ضحية أخرى بفضل بضع ثوانٍ من الإهمال من جانب الجزّار الموسوس. من هناك، تبدأ الكرة السردية في الانبساط وإعادة ترتيب الأشياء لفهم كيف وصلت الأمور إلى هنا.

يصور المسلسل بطله القاتل على أنه مثلي مكبوت، شخص غير قادر على ترسيخ الاتحاد الجسدي، ناهيك عن العاطفة، مع رجل آخر. يحدث تسامي الرغبة في مكان آخر: ملامسة أسطح ودواخل الأجساد، واستهلاك الدم واللحم البشري كشراكة غادرة مع الآخر. حقيقة أن غالبية الضحايا كانوا من الأميركيين من أصل أفريقي أو عرقيات أخرى غير بيضاء تضيف طبقة أخرى من التعقيد للأحداث، خصوصاً عند مواجهة المظهر الأشقر الملائكي للوحش.

ليس من قبيل المصادفة أن يعرض سيناريو المسلسل، قبل دخول صالة البولينغ ومغازلة دامر الأولية، لقطة لجارته السوداء وهي تبكي أمام شاشة التلفزيون: في الأخبار، قامت مجموعة من رجال الشرطة البيض بضرب رجل أسود بعنف، غير مدركين لكونه زميلاً لهم يعمل متخفياً في مهمة سرية.

تنكسر الغشية بالضوضاء القادمة من الشقة المجاورة، وهي المرافقة الصوتية المعتادة لرائحة عطرة كريهة تتخلل الجدران منذ شهور. "كان لدي الكثير من اللحم في الثلاجة وفَسد"، هذا هو الجواب الذي يعطيه للجارة وأيضاً بعد ساعات قليلة للشرطة، بعد تعثّرها صدفة بالضحية الأخيرة، التي لحسن الحظ لم تصبح ضحية كاملة، وانتباهها أخيراً لما كان على وشك الحدوث.

من دون الوصول إلى الدموية الصريحة لـ"القفاز الذهبي" (2019)، فيلم الألماني فاتح أكين المنذور لقاتل متسلسل آخر ابتليت به هامبورغ في السبعينيات، يختار المسلسل نبرة جافة ومروّعة، تهتم أحياناً باستثمار واستخدام أساليب التشويق والرعب الواقعي، وفي حالات أخرى تتجذر في وصف الروتين العائلي، وعلى الدوام متضاربة ومتنافرة بالنظر لمعرفة المشاهدين بحقيقة ما انتهت إليه الأمور.

يوفّر إيفان بيترز، شبح الموسم الأول من "قصة رعب أميركية"، الدور الذي شهره وعرّف الجمهور به، السمات الجسدية المثالية لشخصية ذات مظهر خجول ومربك، تخفي وراء قناعها الهادئ الرزين أسوأ الدوافع.

أما الشخصية المركزية الأخرى التي لا غنى عنها في الحبكة هي دامر الأب (ريتشارد جينكينز). ذلك الرجل غير القادر على تحديد أسباب جنوح ابنه وغرابته، يلوم نفسه على فشله في تحديد العلامات المشيرة لوجود خطأ ما، وتتلبّسه فكرة "تصحيح" دوافع ابنه الجنسية ومسؤوليته عما وصل إليه بسبب مجاراته وتشجعيه له صغيراً في شغفه المبكر بتحنيط وتشريح الحيوانات الميتة. أما مولي رينغوالد، الملهمة الأبدية لكوميديات ​​كتبها و/أو أخرجها جون هيوز، فتلعب دور زوجة والد دامر، المنوط بها على نحو متزايد الشدّ من أزره وإبعاده عن الحفر عميقاً في استخراج دوافع وأسباب ما أوصل ابنه إلى ما وصل إليه.

هل كان ذلك بسبب استهلاك والدته الهستيري للمهدئات ومضادات الاكتئاب أثناء حملها به؟ أم نتيجة الجراحة غير المرغوب فيها أثناء طفولته؟ هل بسبب المشادات التي لا تنتهي بين والديه وما تخلّلها من صراخ وتهديدات؟ هل كان إدمانه على الكحول؟ أم أنها مجرد حالة نفسية لم تُعالَج أبداً، حالة من الجنون لا تعرف الكبح عندما يتعلق الأمر بإشباع أسوأ الرغبات؟ لا توجد إجابة محددة، والمسلسل يتعامل على هذا الأساس. أو على حد تعبير إيفان بيترز، فـ"القاعدة الوحيدة التي فرضها رايان هي عدم سرد القصة من وجهة نظر دامر. لا ينبغي للجمهور أن يتعاطف معه، ولا يجب أن يتبّني رؤيته. الفكرة هي النظر إلى كل شيء من الخارج. لا يتعلق الأمر به وبقصته، بل بتداعيات أفعاله. أعتقد أنه من المهم احترام الضحايا وعائلاتهم. لمحاولة سرد القصة بأكبر قدر ممكن من الأصالة".

وعلى ذكر الضحايا وعائلاتهم، ظهرت أصوات من هذا الجانب تنتقد صنّاع ومنتجي المسلسل لعدم التواصل معهم أو سؤالهم بشأن تمثيلهم في المسلسل. أفادت ريتا إيسبل، التي قُتل شقيقها إيرول ليندسي العام 1991 وظهرت هي نفسها في المسلسل بشكل لافت، بأن لا مورفي ولا "نتفليكس" اتصلوا بها. وقالت: "أعتقد أنه كان يجب على نتفليكس السؤال عما إذا كان لدينا أي شيء ضد المشروع أو كيفية تعاطينا حيال قيامهم بذلك. لكنهم لم يسألوني قطّ. هم لا يسألون وحسب".

تثير مسلسلات مثل "جيفري دامر" أسئلة أخلاقية، من ناحية إضفائها طابعاً رومانسياً على القضايا الجنائية الحقيقية، بموازاة أنها قد تدرّ مداخيل جيدة بالتأكيد. ونظراً للرواج الحالي لموجة البودكاست المخصص للجرائم الحقيقية، تزداد في المقابل الحاجة إلى أشكال وتنسيقات جاذبة لعشاق النوع. بالنسبة إلى مورفي و"نتفليكس" يعتبر المسلسل نشاطاً تجارياً. ومن المحتمل أن يكون أحد أكثر إنتاجات الشركة نجاحاً على مستوى المشاهدات. أقارب الضحايا لا يصلهم أي شيء من هذا النجاح المادي. فمن المستفيد الحقيقي من طفرة الأعمال الفنية المستندة إلى جرائم حقيقية تنبش في تفاصيل مروّعة وآثار مؤلمة؟

من نتائج الضجة الحاصلة حول المسلسل حالياً أيضاً، افتتان الآلاف من المشاهدين على وسائل التواصل الاجتماعي بالقضية، عبر حسابات "تيك توك" ومقاطع فيديو حول دامر. جانب من هذا الافتتان كامن في الممثل إيفان بيترز، المضطلع بدور السفّاح، وحقيقة تجسيده الشخصية بشكل رائع.

ليس ببعيد من آثار هذا الافتتان الحالي ما حدث بعد القبض على القاتل الحقيقي: صورته تصدّرت مجلات رصينة وبارزة، وصار أقرب ما يكون لنجم تلفزيوني تتهافت عليه طلبات المقابلة، معجبون يراسلونه في السجن بقلوبٍ وأمنيات محبّة وآخرون يلتقطون الصور أسفل شقته، مقتنياته تُعرض للبيع في مزادٍ؛ أما والده فنشر كتاباً عنه ووصل لقائمة الأكثر مبيعاً، قبل أن يظهر على التلفزيون لمناقشة أي الممثلين أنسب لتأدية دوره في فيلم مرتقب.

يشير المسلسل إلى هذا الجنون الجماعي، ولو من طرف قلّة في بلدٍ بحجم قارة، واصلاً الخطّ بينه وبين خللٍ اجتماعي ورسمي مكّن السفّاح من ارتكاب جرائمه على مدى 13 عاماً في ولايتين مختلفتين، وفي شقة انبعثت منها رائحة كريهة ملأت أنوف جميع الجيران. كيف حدث هذا؟ لأن دامر كان أبيض ووسيماً، بينما كان ضحاياه غالباً من المثليين من أصول إفريقية، وكذلك المبلغين عنه والمرتابين بشأنه. من المستحيل عدم التكهن بمَن تصدّقه الشرطة حين مواجهتها باتهامات أولئك الذين عاشوا على بُعد أمتار من مذبح الجزّار. بفضل عنصرية ولامبالاة واستهتار عناصر شرطية أوقعتهم أقدار الضحايا الكئيبة في طريق القاتل، أمكنه الإفلات من المسائلة في كل مرة.

بهذا المعنى، يركّز المسلسل بشكل أكبر على الخوض في هذا العنف المنهجي والعرقي المتجذر في المجتمع وفهم أبعاد دامر السيكوباتية بدلاً من جعله مخلوقاً مثيراً أو موضوعاً للافتتان. والنتيجة عمل قوي لكن غير مريح البتة، بلهجة جافة وهادئة يخفي في جوهره نواة معذَّبة من الظلام المتراكم. مسلسل يشبه إلى حدّ كبير بطله.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها