الثلاثاء 2021/07/13

آخر تحديث: 18:25 (بيروت)

كم أتمنى لو كنت نزيلاً في سجن دمشق المركزي!

الثلاثاء 2021/07/13
كم أتمنى لو كنت نزيلاً في سجن دمشق المركزي!
increase حجم الخط decrease
"كم أتمنى أن أكون نزيلاً هناك"، جملةُ لا بد أن تراود أي شخص يشاهد تقرير قناة "الإخبارية السورية" عن "منتجع" سجن دمشق المركزي الذي بدت فيه الحياة على الشاشة الرسمية أفضل بعشرات المرات من الحياة خارجها حيث طوابير الذل اليومية وانقطاع الكهرباء الدائم والجوع والعصابات والمسؤولون ومعدلات الفقر التي تطال أكثر من 85% من السوريين.

والتقرير جزء من برنامج "فن الممكن"، وعرضت فيه طوال ثماني دقائق صور ومقابلات صورت السجن سيئ السمعة، الذي مازال يستخدم لاعتقال سجناء سياسيين، كمكان مرفه يقوم فيه "النزلاء" بتطوير مهاراتهم عبر الدراسة أو تعلم حرفة ما، من أجل اندماجهم في المجتمع مرة أخرى بعد انقضاء فترة محكوميتهم، علماً أن السجن هو سجن مدني تابع لوزارة الداخلية، ولم يتم فتحه أمام الإعلام سوى مرات قليلة.



وبغض النظر عن الإعلام الرسمي الذي يغطي أخبار السجن من حين إلى آخر بعد الثورة السورية، بما في ذلك تصوير حياة المعتقلين بتهم الإرهاب العام 2015 عبر "الإخبارية السورية" نفسها، فإن النظام سمح للإعلام المستقل بدخول السجن قبل الثورة مرتين فقط، بحسب وكالة "رويترز"، الأولى كانت العام 2005 حين نظم السجناء اعتصامات للتنديد بتقرير المدعي الألماني ديتليف ميليس الذي اتهم سوريا باغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، والثانية العام 2010 عندما نظمت وزارتا الداخلية والثقافة معرضاً فنياً للسجناء بهدف "تقديم المواهب من السجناء ومنح السجناء فرصة للتعبير عن مشاعرهم وأفكارهم".

ويبدو أن النظام السوري يحاول منذ العام 2011 تعميم صورة إعلامية إيجابية عن السجون والمعتقلات في البلاد عبر هذه النوعية من المبادرات والتغطيات الإعلامية الإيجابية، والتي كان آخرها توقيع وزارتي الداخلية والتعليم العالي قبل أيام، مذكرة تفاهم تنص على إعادة تأهيل نزلاء السجون بتقديم فرصة لهم لمتابعة تحصيلهم العلمي وحصولهم على الشهادة الجامعية، في وقت مازال النظام يواجه تحديات حقوقية مع رفضه لتقديم إصلاحات سياسية في البلاد.

وبالطبع لم يطرح تقرير الإخبارية الذي حمل عنوان "جدران لا تحجز الأحلام" القضايا الأهم مثل مدى قانونية اعتقال المواطنين من دون تهم واضحة او من دون محاكمات، أو سبب بقاء المعتقلين في السجون رغم مراسيم "العفو الرئاسية" السابقة، وحقوق الإنسان وقضايا الاعتقال  التي تنفي "الدولة السورية" وجودها أصلاً، ويصبح "السبق الصحافي" المتمثل في دخول السجن، مجرد تلميع آخر لصورة الدولة المهترئة وتقديمها على أنها ترعى حقوق مواطنيها وحياتهم حتى عندما يكونون مذنبين ويقضون عقوبات بـ"الاحتجاز" الأشبه بفترة تأهيل للحياة خارج السجن لاحقاً.

والنظام هنا هو الأب الحنون والقاسي على أطفاله في آن واحد من أجل مصلحتهم جميعاً. وإن كانت التفاصيل التي عرضت على الشاشة موجودة فعلاً منذ وقت طويل، مثل مكتبة السجن وورشات العمل اليدوية مثل الخياطة والنجارة وغيرها، فإن المشهد يبقى مجتزءاً، لكونه ينقل وجهة نظر واحدة ومقصودة. ولا يعتبر ذلك بالنهاية جهداً إعلامياً مثلما يتم الترويج له بل هو جهد دعائي يساهم في نقل صورة كاذبة عن الأوضاع الإنسانية التي تشتكي منها مجموعات حقوق الإنسان الدولية عموماً ويعرفها السوريون عن تجارب شخصية أو قصص متداولة حول الحياة في تلك السجون.

والحال أن ما لا تقوله "الإخبارية" هنا هو القضية الحقيقية، فسجن دمشق المركزي يشكل فعلاً مكاناً مرفهاً بالنسبة للمعتقلين في أماكن أكثر ظلامية مثل سجن تدمر المركزي أو سجن صيدنايا العسكري الذي تصفه منظمة العفو الدولية "أمنستي" بعبارة المسلخ البشري. ومنذ بدء الاحتجاجات عام 2011، دخل نصف مليون شخص إلى سجون ومراكز اعتقال تابعة للنظام السوري، قضى نحو 60 ألفاً منهم تحت التعذيب أو نتيجة ظروف اعتقال مروعة، بحسب "المرصد السوري لحقوق الإنسان"، وبات ذلك أيضاً سوقاً يجني منها النظام السوري الأموال عبر ابتزاز عائلات المعتقلين والمغيبين قسراً، سواء لتقديم معلومات عنهم أو لنقلهم إلى السجون المدنية.

ويجب القول أن السجون المدنية تبقى بعيدة عن احترام حقوق الإنسان أيضاً، كما أن كثيراً من المعتقلين السياسيين يحولون إلى تلك السجون بعد قضاء فترات معينة في المعتقلات الأخرى، وفي سجن دمشق المركزي تحديداً توجد أجنحة خاصة للسجناء السياسيين وأخرى للسجناء الإسلاميين معزولة عن بقية الأجنحة.

واحتجزت في السجن شخصيات بارزة مثل الصحافي الكردي مسعود حامد الذي قضى فيه سنة كاملة بين العامين 2003 و2004 في الحبس الانفرادي، وفق منظمة "هيومان رايتس ووتش" بالإضافة لتعرضه للتعذيب هناك، كما شهد السجن إضرابات شهيرة تم توثيقها منها إضراب المهندس غسان نجار واثنين من زملائه العام 1980 احتجاجاً على الظروف غير الإنسانية للاعتقال، وإضراب المساجين الأكراد العام 2004 احتجاجاً على كمية التعذيب داخل السجن، وإضراب 13 معتقلاً سياسياً من بينهم أنور البني وهيثم المالح العام 2011 احتجاجاً على الاضطهاد الحكومي واستمرار سياسة الاعتقال التعسفي، وصولاً لإضراب السجينات العام 2014 احتجاجاً على إهمال قضاياهم من قبل النيابة العامة ومحكمة مكافحة الإرهاب.

وأظهر تقرير خاص أصدرته "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" في حزيران/يونيو 2020، مقتل 14388 سورياً تحت التعذيب من بينهم 14235 شخصاً قتلوا في معتقلات نظام الأسد منذ العام 2011، في وقت أنكر فيه رئيس النظام بشار الأسد في عدد من المقابلات الإعلامية وجود التعذيب في البلاد من أساسه، وهي السياسة الإعلامية والدبلوماسية المتبعة لمواجهة تبعات قانون قيصر الأميركي الذي يفرض عقوبات على النظام والمقربين منه، بعد تسريب المصور "قيصر" المنشق عن النظام 55 ألف صورة مروعة من داخل المعتقلات الأسدية، بما يظهر التعذيب كسياسة ممنهجة هناك، علماً أن الأسد وصف الصور المسربة شخصياً في إحدى المرات بأنها نتيجة التلاعب بالصور عبر برنامج "فوتوشوب".

وبالطبع فإن الإعلام الرسمي لن يطرح الأسئلة الملحة لأن  الدولة السورية البعثية، رأت في الإعلام مجرد "ناقل للخطاب الوطني والسياسي السوري بكل فخر"، لا أكثر، يتم استخدامه من أجل "توجيه الرأي العام" بوصفه قطيعاً جاهلاً يجب توجيهه نحو بر الأمان، بشكل يعاكس طبيعة الإعلام في المجتمعات الديموقراطية والدول التي تهتم بحرية التعبير.

ومن نافل القول أن النظام على رأس الأطراف التي ترغب في طي ملف المعتقلين، الذي بات الحديث عنه قليلاً ونادراً في الخطابات الدبلوماسية حول مستقبل الحل السياسي في البلاد مع اقتراب الحرب لنهايتها. ويعود ذلك لحقيقة أن وجود المعتقلين والمغيبين قسراً بشكل خاص يكسر سردية النظام الدبلوماسية والإعلامية التي تصوره قوة شرعية تكافح الإرهاب بالشراكة مع المجتمع الدولي، بعكس حقيقته كتجسيد مثالي لإرهاب الدولة، حيث تذكر قضية المعتقلين، أكثر من أي ملف آخر ربما، بالأسباب الأساسية التي ثار الشعب السوري من أجلها، والتي تتعلق بسياسات القهر والظلم وحياة الخوف التي نشرها النظام طوال عقود.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها