السبت 2021/06/26

آخر تحديث: 14:43 (بيروت)

"مخدومين": لا مهرَب من العار.. ومسؤوليتنا جميعاً

السبت 2021/06/26
"مخدومين": لا مهرَب من العار.. ومسؤوليتنا جميعاً
increase حجم الخط decrease
مرير هو الواقع الذي يصوره وثائقي "مخدومين"، وأمرّ ما فيه أننا اعتدناه وجعلناه في عداد الأمور "الطبيعية" التي يسهل التحرر من مسؤوليتنا الجماعية تجاهها. الحديث هنا عن أحد أطوار العبودية الحديثة، أي العمالة المنزلية المهاجرة التي لها سوق واسع ومزدهر في مجتمع الخمسة ملايين لبناني.

لكن لا هروب من هذه المسؤولية، كما يقول المخرج والكاتب ماهر أبي سمرا في الوثائقي الذي عرض بين 10 و16 حزيران/يونيو الجاري عبر موقع "مخدومين"، وهو الموقع الإلكتروني الذي تم إطلاقى كامتداد للفيلم، وسيكون مفتوحاً لتوثيق سوق العمالة المنزلية في لبنان، علماً أن الفيلم من انتاج سابين صيداوي وجنان داغر، أما فريق عمل الموقع فيضم "استديو أشغال عامة".

الجميع مذنب، او على الأقل متواطئ، في إدامة نظام العبودية أو ما يعرف بنظام الكفالة الذي تخضع له العاملات المنزليات المهاجرات في لبنان، حيث ترسخت هذه الظاهرة في النسيج الاجتماعي اللبناني وأسلوب الحياة لتمسي أزمة تخص مجتمعاً كاملاً وليس فرداً بعينه. ويقود الفيلم الى هذا الاستنتاج من خلال مقاربة ظاهرة استقدام العاملات المنزليات الى ظروف عمل وحياة لا إنسانية، وذلك من وجهة نظر أرباب العمل اللبنانيين (الكفيل) أو مكاتب استقدام العاملات (الوسيط)، وهي وجهة نظر كفيلة بتعرية الكثير من أشكال الاضطهاد والانتهاك المتأصلة في نظام الكفالة.

وهنا، يجمع الفيلم بين المشاهد الواقعية التي تظهر سير العمليات اليومية في أحد مكاتب استقدام العاملات، وبين الشهادات الشخصية للبنانيين يوظفون عاملات منزليات. يعتمد المخرج أبسط الأساليب في صياغة المحتوى وعرضه، ويكتفي في الجزء الأكبر من الفيلم، بإطار ثابت يظهر مدير المكتب المذكور وهو يلتقي بزبائنه ويتوسط بينهم وبين العاملات و"يحل" النزاعات. ثم ينتقل أبي سمرا لالتقاط بعض الشهادات، مُرفقاً إياها بمَشاهد لأبنية المدينة، مع التركيز على العلبة الأصغر في كل شقة، تلك التي لا تصلح لأن تكون غرفة، وهي غرفة "الخادمة" كما يطلق عليها.

أما على صعيد المحتوى، فهو الآخر بسيط وعادي جداً. بمعنى أنه غير مشحون عاطفياً أو أخلاقياً، ولا يصور أي صراع شخصي أو مباشر، بل يكتفي بالعادي واليومي من الأمور، وهو ما يجعله في غاية التراجيدية. لا يعرض الوثائقي مَشاهد أو روايات العنف الوحشي والصادم التي تتعرض لها العاملات بكثرة في لبنان، مع غياب الرقابة والمحاسبة وانحياز القانون لمصلحة رب العمل اللبناني، بل يوظف عدسته من أجل فضح العنف المبطن والاستغلال الممنهج في آليات عمل هذا القطاع الاقتصادي حتى بأشكاله المسالمة.

في أحد المَشاهد، تقلّب سيدة ألبوم صُور بحثاً عن "صانعتها" المستقبلية. هي زبونة أتت من أجل شراء سلعة، وهي قلقة من المخاطر التي قد ينطوي عليها هذا الاستثمار، لذلك تحدق ملياً في وجوه العاملات المستعرَضة في الألبوم، مفتشةً عن ملامح الطاعة و"النعومة" على حد قولها: "هيدي مبينة قوية" تقول لها مساعدة مدير المكتب في إشارة الى أنها قد لا تكون الأنسب. "أحلى شي الهبل ويلي بيفهموش"، تقول زبونة أخرى، فيما يشكو كفيل تمرّد العاملة التي تشتغل لديه ورغبتها في تغيير الكفيل او العودة الى بلدها "فنحن نطعمها ولا نضربها، ماذا تريد أكثر من ذلك؟"

يبدو الكفيل غير قادر على فهم الأسباب التي قد تدفع موظفاً لترك وظيفته، فيأتى مدير المكتب بعاملة أجنبية أخرى من أجل الترجمة والتفاوض مع العاملة "المتمردة". وحين تسألها عن سبب رفضها البقاء في منزل الكفيل، مُذكرةً إياها بأنهم "يطعمونك ولا يضربونك"، تجيب الأخرى بأنها تعاني أوجاعاً مستمرة وأصحاب البيت يرفضون أخذها للمشفى. اللافت في هذا الموقف أن العاملة المُترجِمة ترفض ترجمة هذا الجزء المتعلق بآلام "زميلتها" وإهمال حالتها الصحية من قبل صاحب العمل، فتكتفي بالقول بأن العاملة "المتمردة" تريد أن تترك البيت "هيك... من دون سبب"، وكأنها لا ترى في الحرمان من الرعاية الطبية سبباً وجيهاً لفسخ العقد الذي يضع صحة العاملة، الجسدية والنفسية، في عهدة الكفيل وتحت "رحمته".

يُلاحَظ في هذا المشهد بالتحديد، تجريد العاملة المنزلية من صوتها ومن حقها في الاحتجاج على أيٍ من أشكال الانتهاك والحرمان. ويحدث ذلك بمساعدة عاملات منزليات أخريات، يواجهن الصراعات نفسها الا أنهن طبَّعنَ معها، تماماً كما فعلنا نحن، فأضحينَ يرينَ وجودهن ومشاكلهن من منظار رب العمل اللبناني، بما يعتريه هذا المنظار من استغلال وفوقية. يبحث الفيلم في مفهوم الفوقية، ويسلط الضوء على شكل محدد من أشكالها، هي تلك التي تدعي التجرد من العنصرية، وتتفاخر بمستوى الحرية الذي تتيحه للعاملة، "فنحن نسميها عاملة، لا خادمة، كما نسمح لها بالتظاهر ضد نظام الكفالة الذي نستفيد منه جميعاً". لكن رغم محاولاتنا لتنميق الموضوع وتغليفه بقالب حداثي صائب سياسياً، تبقى حقيقة الأمر أننا جميعاً نشعر بالعار من استمرار هذه الظاهرة واستفادتنا منها.

يعاين أبي سمرا هذا العار اللبناني، من خلال المبررات والأعذار التي يسوّغ بها اللبنانيون انخراطهم في قطاع العبودية. يشير مثلاً الى العرف الاجتماعي الذي يقضي بتوظيف عاملة منزلية للاعتناء بالوالدَين المسنَّين، باعتباره واجباً أخلاقياً تجاه الأهل. على صعيد آخر، تروي إحدى النساء اللبنانيات أن مستوى التحرر والاستقلالية الذي تتمتع به، كامرأة عاملة وأمٍّ مطلّقة، ما كان ممكناً لولا تلقيها المساعدة من عاملة منزلية قبلت بالتخلي عن استقلاليتها وحريتها. لكن الجميع يدرك بأنه ليس هناك ما يبرر راحتنا ورفاهيتنا على حساب شقاء إنسان آخر، وهو ما يدفعنا الى التعامل مع العاملة المنزلية وكأنها غير موجودة، غير مرئية. "فالخادمة التي تتقن مهنتها هي تلك التي لا نشعر بحضورها، يصبح وجودها خفياً". يعترف الكاتب نفسه أنه يتجنب النظر الى العاملة "وكأني أحاول أن أنفي حضورها ومسؤوليتي في أن تكون هنا".

ذنب اللبنانيين واضح وصريح، وهو يتجلى بالرقم المهول لحوادث الانتحار التي تذهب ضحيتها العاملات المنزليات في لبنان (بمعدل حادث واحد كل أسبوع). الا أن البعض يصر على انكار هذا الذنب، كصديقَي الكاتب اللذين عايشا تجربة انتحار العاملة المنزلية التي تعتني ببيتهما، فقصدا الطبيب النفسي- يا للسخرية!- من أجل تبرئتهما من ذنب انتحارها والاستنتاج بأن أسباب الانتحار "كانت شخصية".

لكن كيف يمكن فصل العوامل الشخصية عن ظروف العمل في حالة العمالة المنزلية الخاضعة لنظام الكفالة تحديداً؟ وكيف يمكن الحديث عن عوامل شخصية في الوقت الذي تحرم فيه العاملات المنزليات من امتلاك حياة خاصة أصلاً؟ يبدو أن الثنائي المذكور تجنب الخوض في هذه الأسئلة، وتبنّيا تبرئة المعالج النفسي في غضون جلستين قررا بعدها استقدام عاملة منزلية جديدة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها