الأربعاء 2020/02/26

آخر تحديث: 19:49 (بيروت)

سقطت كفرنبل.. سقط كل شيء

الأربعاء 2020/02/26
سقطت كفرنبل.. سقط كل شيء
increase حجم الخط decrease
"يسقط النظام والمعارضة. تسقط الأمة العربية والإسلامية. يسقط مجلس الأمن. يسقط العالم. يسقط كل شيء". هذه واحدة من أشهر وأقدم لافتات بلدة كفرنبل السورية، استعادها السوريون الذين استرجعوا بوجع قصة موت الثورة السورية، إثر سيطرة جيش النظام السوري على البلدة الأيقونية الواقعة في منطقة جبل الزاوية بريف إدلب شمال غربي البلاد.

ومع سقوط البلدة، من الصعب حصر أيقونيتها باللافتات نفسها التي كانت بحد ذاتها حدثاً عالمياً أقيمت له المعارض في دول متعددة، منها فرنسا والولايات المتحدة، لأن كفرنبل مثلت بالنسبة للسوريين شيئاً أكبر من مجرد التعبير الرمزي والخلاق عن التطلعات للحرية والديموقراطية، وكانت تذكيراً مستمراً بسلمية الثورة السورية ومدنيتها ونقائها كحركة نبيلة في وجه الظلم والقهر والعنف الممنهج، ورداً على كل السرديات التي شيطنت المعارضة السورية وصورت المعارضين للنظام والهاربين منه كإرهابيين.

ولهذا السبب ربما، كانت كفرنبل دائماً مستفزة للنظام وجمهوره، مثلما كان ذكرها يرسم البسمة على شفاه المعارضين له. فالبلدة التي لم تكن معروفة أو مشهورة، مثل كثير من المناطق السورية التي همشتها سياسات النظام طوال عقود، لم تتحدَّ النظام فقط، بل تحدت القوى والفصائل الجهادية والميليشيات الإسلامية التي تصدرت المشهد في سوريا بعد العام 2013. وحافظت البلدة على لافتاتها مرفوعة كل أسبوع في وجه الجميع، بما فيهم الفصائل المعارضة وتنظيم "داعش" و"هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة سابقاً).

ومع تطور الأحداث، تنوعت اللافتات الموقعة في كفرنبل ومنها: "ليست حرباً أهلية، إنها مجزرة.. اتركونا نموت، لكن لا تكذبوا" و"روسيا.. أطلقي سراح مجلس الأمن"، و"إلى الجامعة العربية، اعترفوا بفشلكم ولا تكونوا شركاء في الجريمة" و"إلى البابا: ميلاد مجيد من سوريا، الأرض التي قتل عليها الأسد سانتا كلوز". وفي العام 2014، خاطت نساء كفرنبل علم المعارضة بنجومه الحمراء الثلاث وبطول 75 متراً، وحملنه على امتداد أحد شوارع المدينة، في مشهد لا ينسى. علماً أن المدينة اصطدمت بالجهاديين مرات كثيرة بسبب دعمها لحرية النساء، والمنظمات المدنية المستقلة التي نشأت فيها ودعمت المرأة السورية، ومنها على سبيل المثال "راديو فريش" الذي مثل نموذجاً مشرقاً للإعلام الحر في البلاد.

ويحيل التجول في أرشيف لافتات كفرنبل بعد سقوطها، إلى أوصاف أطلقها سكان البلدة على بلدتهم، برزت في توقيعهم على اللافتات من "كفرنبل المحتلة" إلى "كفرنبل قيد التحرير" إلى "كفرنبل المحررة" وأخيراً "الثورة السورية - كفرنبل"، واليوم، يوقع الناشطون السوريون مع إعادة نشرهم للافتات، بعد سقوط البلدة بعبارة "كفرنبل المحتلة". هي دورة كاملة نصفها الأول من الأمل والحلم بمستقبل أفضل ونصفها الآخر من القهر والحزن العميق والأسى. ويمثل الشطران قصة الثورة السورية التي تبقى من أنبل وأجمل القصص في التاريخ المعاصر، على الرغم من محاولات تشويهها المستمرة.

لا يأتي ذلك من فكرة رومانسية تجافي الواقع الذي باتت فيه سوريا دولة توقفت بالفعل عن الوجود لصالح تحولها إلى مجموعة من الكانتونات المتصارعة إثنياً وطائفياً من جهة، وساحة للصراعات الدولية من جهة ثانية. بل من حقيقة أن كفرنبل، طوال تسع سنوات، كانت التعبير الأصدق عن جوهر الثورة مثلما كانت تعبيراً عن تقلبات الحالة السورية نفسها. وتحيل حالتها المحزنة اليوم، إلى حقيقة شعور ملايين السوريين بأن النظام السوري بحد ذاته يشكل قوة احتلال، إلى جانب كونه بات وكيلاً لحلفائه الأجانب، ما يستلزم الثورة والتمرد من جديد، الآن أو غداً.

وهكذا، تكتب كفرنبل في سقوطها لافتة لم يخطها أحد بعد، تفند فيها ما يروج له النظام السوري، عبر ماكينته الدعائية والدبلوماسية، حول النصر، وكيف أن مراهنته على تحقيق مصالحة شاملة بعد سيطرته العسكرية على البلاد، ليست دقيقة تماماً، لأن هذا النصر مؤقت ويحول البلاد إلى قنبلة موقوتة تنتظر الظرف المواتي للانفجار، بصورة تمرد أو ثورة شعبية جديدة يقوم بها جيل سوري جديد مؤمن بالحرية ويتطلع للديموقراطية ويبحث عن الكرامة، خصوصاً أنه لا جهود حقيقية على المستوى الدبلوماسي لإيجاد حل سياسي حقيقي ينهي جذور الصراع الأساسية التي أدت للثورة ثم للحرب والفوضى.

وحتى بعد سقوطها، بقيت كفرنبل مستفزة للنظام، فوسائل الإعلام الموالية، قالت في التقارير التي نشرتها حول سيطرة جيش النظام على البلدة، أنها كانت تتلقى الدعم والتمويل الأجنبي لكتابة شعاراتها الإبداعية والاحترافية، لأن البلدة "تعتبر متخلفة نسبياً"، ما يعكس طريقة تفكير النظام بالأرياف والمناطق المهمشة التي ثارت ضد المركز الذي يفترض أن يكون تمثيلاً للحضارة المتفوقة. ويحيل هذا المنطق الأعوج إلى الطريقة التي ينظر فيها النظام إلى السوريين كبشر أقل شأناً يحتاجون الرعاية والتوجيه من "القيادة الحكيمة".

ويشير وصف كفرنبل بـ"المتخلفة" إلى نوع من العنصرية الممارسة ضد السوريين من النظام نفسه، قبل الثورة وبعدها، بالزعم أن هناك "سوريتين"، الأولى هي سوريا النور التي يمثلها النظام المدني المتحضر، والثانية هي سوريا الظلام. وهي سردية ناشئة في إعلام النظام نفسه، باتت بحد ذاتها بديلاً لمصطلح "سوريا المفيدة" الذي تم تداوله قبل سنوات. وضمن هذا التقسيم السام والكاذب، تتصارع هويتان. الأولى مدنية موالية، والثانية جهادية معارضة. وتنسف "كفرنبل" برمزيتها هذه السردية من أساسها، بالتذكير مجدداً وأبداً بأن هناك سوريتين اثنتين: سوريا الأسد بوصفها دولة بوليسية مجرمة ومخيفة، وسوريا الوطن أو سوريا الحلم التي ثار السوريون من أجلها العام 2011، وواجههم النظام بالرصاص الحي وسياسة الأرض المحروقة وخطاب التخوين.

واللافت أن البلدة تصدت لهذا التقسيم العام 2013 أيضاً، بعد سيطرة "جبهة النصرة" على محافظة إدلب. حينها حاولت "النصرة" تنظيم مظاهرة مشتركة مع أهالي البلدة بالاستفادة من أسلوب اللافتات الشهيرة، لكن أهل المدينة رفضوا ذلك في رفض صريح لأسلمة الثورة والطابع الجهادي الذي مثلته "النصرة". وعليه خرجت تظاهرتان متمايزتان في البلدة للمرة الأولى، هتف أهل البلدة في الأولى مع الأعلام الملونة: "حرية حرية دولة مدنية"، وهتف الجهاديون في الثانية "بدنا خلافة اسلامية" مع الأعلام السوداء.

وكانت تلك اللحظة مفصلية، لكونها عكست إقصاء للجهاديين ورفضاً لمشروعهم، من قبل السوريين أنفسهم، خصوصاً أن النظام السوري عمد إلى إطلاق سراح عدد كبير من الجهاديين من معتقلاته العام 2011 في عفو عام أصدره رئيس  النظام بشار الأسد حينها، من أجل أسلمة الثورة وإيجاد مبرر للعنف ضد السوريين وخلق سردية أن النظام يقاتل الإرهابيين في سوريا.

ومن المثير حقاً أن الجهاديين، لا النظام، هم من اغتالوا العام 2018 مهندس لافتات كفرنبل وناشطها الأبرز، رائد الفارس، حسبما تشير التقارير ذات الصلة، لأن تلك التنظيمات كانت منذ ظهورها عدوة للثورة السورية وحملت مشروعاً لا يمت للسوريين بصلة. ولا عجب اليوم في أن تلك التنظيمات الجهادية لا تقاتل النظام في إدلب بعدما بات وجودها مشكلة دولية وإقليمية، وتحديداً للعلاقة بين روسيا وتركيا بوصفهما دولتين نافذتين في الشأن السوري.

وبغض النظر عن هذا المشهد السوري المعقد، ومآلات الحدث السوري وهموم الموت واللجوء وتراكم القهر والخيبات وصراع الهويات، يتوحد السوريون ولو للحظة واحدة، من أجل رثاء ثورتهم مرة جديدة: "سقطت كفرنبل.. سقط كل شيء".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها