السبت 2018/09/29

آخر تحديث: 17:48 (بيروت)

نظام للتقييم الإجتماعي الكترونياً.. الديستوبيا على الأبواب!

السبت 2018/09/29
نظام للتقييم الإجتماعي الكترونياً.. الديستوبيا على الأبواب!
200 مليون كاميرا ترصد الوجوه وتقيمها تهدّد بالقضاء على اللغة والحوار الإنساني
increase حجم الخط decrease
أقلّ من سنتين تفصل الصين عن تحوّل كامل في بنيتها الاجتماعية، بفرض نظام مراقبة إجتماعي جديد وغير معهود، ليس فقط بالنسبة للشعب الصيني وإنما للبشرية جمعاء. إنه نظام الديكتاتورية الإلكترونية الذي يحكمه الـalgorithm والتكنولوجيا الرقمية، أو كما تدعوه الدولة الصينية "نظام الإئتمان الاجتماعي". 

مع إنتظار إطلاقه رسمياً في العام 2020، ما زال المشروع في مرحلته التجريبية، إلا أن ملامحه بدأت تتضّح، طارحةً إشكالياتٍ خطيرة وسيناريوهات عصية على التصور. البرنامج هو عبارة عن نظام مراقبة وتقييم ذكي، يراقب سلوك المواطنين خطوة بخطوة ويعطيهم علامة بناءً على كل فعل يقومون به. 
ويتغذى هذا البرنامج على البنية التحتية التكنولوجية للصين والتي تعرف بغناها، مع مئتي مليون كاميرا مراقبة، ويتم العمل على تزويدها جميعاً بتقنية متطورة للتعرف على الوجه. كما يقوم البرنامج بمراجعة السجلات القانونية والطبية والمالية لكل مواطن.

لا يقتصر التقييم على الإمتثال القانوني لسلوكيات المواطنين، وإنما يدخل في صلب خياراتهم اليومية الخاصة. فعلى سبيل المثال، تضاف علامات على التطوّع والعمل الخيري، فيما تحذف درجات عند شراء الكحول. ويتعدّى الأمر عملية التقييم والتصنيف إلى فرض نظام إثابة وعقاب، فالسلوك "الجيد" يكافأ بحسوماتٍ على الحجوزات الفندقية وتذاكر الطيران، وقد لا تكون المكافأة من طبيعة مادّية، كمنح الحائزين على درجات عالية، القدرة على تخطّي صفّ من المرضى في المستشفى. أما الذين يحتلّون مواقع دنيا في التصنيف، فإنهم يعاقبون بحظرٍ مؤقت على السفر، أو يحرمون من خدمات الدولة كالنقل المشترك، كما قد يُدرجون ضمن اللائحة السوداء التي يُزعَم أنها تضمّ 9 ملايين إسم.

هذا يعني أن الحكومة الصينية تستطيع فرض عقوبات جدية على مواطنيها ليس إنطلاقاً من مخالفتهم للقانون، وإنما بناءً على "داتا إجتماعية" جمعتها وحلّلتها حواسيب ذكية تفتقر إلى البعد الإنساني الذي هو أساس الحقوق المدنية والإجتماعية للشعوب. 

فعقوبات من نوع منع السفر تتطلّب، عادة، أحكاماً قضائية تنظر في كلّ حالة على حدة. هذا مع العلم أن الصين هي من بين الدول التي يشتمل نظامها القضائي على هيئة محلفين من أطياف الشعب، وهو استُحدث مؤخراً. ويهدف هذا الإجراء القضائي عادةً إلى كبح سلطة الدولة، ذلك أن تقييم سلوك متهم والحكم عليه بالبراءة أو الإجرام يرضخ لإعتباراتٍ إجتماعية وثقافية كثيرة، لا يمكن رؤيتها بعين القاضي وحده، وإنما من وجهات نظر متعددة ومتنوعة.

يتطلّب هذا النوع من المحاكمات قيام نقاش بين المحلّفين الذين يُعدّون ممثلين للشعب، وهذا يعني على نطاق أوسع إشتراك الشعب، كجماعاتٍ وأفراد، في صياغة الأحكام والبتّ في قضايا مجتمعهم.

أما أن تُختزل هذه العملية الديموقراطية بشيفرةٍ ثنائية لغتها "الصفر" و"الواحد"، فإن ذلك يلغي جوانب كثيرة من التجربة الإنسانية، خصوصاً ما ينتمي منها إلى مملكة العاطفة التي تحكم الحياة الاجتماعية والتي تظلّ خارج متناول الذكاء الإصطناعي. 

يهدّد هذا النظام إذاً بالقضاء على اللغة والحوار الإنساني القائمين على المنطق الجدلي والمنازعة الفكرية وإستبدالهما بلغة الأرقام الجامدة والحاسمة. ولعلّ أخطر ما في الأمر هو الهدف النهائي للمشروع المتمثل في تصنيف المواطنين بين "صالحين" و"فاسدين" بغية خلق "مجتمع إشتراكي متجانس" وذلك عبر "السماح للنزيه بأن يجول بحرية في الجنة، فيما يجعل من الصعب على فاقد المصداقية بأن يقوم بخطوة واحدة"، وفق شعار البرنامج وبيان الحزب الشيوعي الصيني.

وإذا كانت النزاهة هي حجر الأساس الذي بني عليه نظام التقييم، فلنتخيل تطبيقه على المجتمع اللبناني. فما لا خلاف عليه هو أن العقلية اللبنانية، بتركيبتها الاجتماعية، ليست عقلية مستقيمة يسيّرها النظام ومبدأ إحترام الأسس والقوانين بعيداً من طرق العيش الملتوية. إن برنامجاً من هذا النوع يهدّد بإنهيار البناء الاجتماعي في بلدٍ كلبنان وكافة دول العالم الثالث التي تسود فيها النزعات الإستبدادية وسوء إستخدام السلطة. ولقد رأينا في لبنان ماذا يمكن للقدرات التقنية المحدودة لمؤسسات رسمية أن تفعل. فماذا لو أعطيت هذه الدولة سلطة تكنولوجية مطلقة تمكنها من مراقبة المواطنين في العالم الواقعي وليس الإفتراضي فحسب؟

وقد بدأت الإنعكاسات السياسية لهذا البرنامج بالظهور، مع إستخدامه من قبل الحكومة الصينية لحلّ المنظمات الاجتماعية والنقابات العمالية المحلية منها والعالمية بذريعة أنها "غير شرعية"، مع العلم أن أحد شروط هذه الشرعية هو "التوجه الشيوعي". وبغضّ النظر عن التوجه السياسي للنظام، أكان شيوعياً أم ليبرالياً، فإن تمركز هذه السلطة في يد الدولة يكسر السيرورة الطبيعية للتطور الاجتماعي، مع تحكّم قوة واحدة بها، تغرق الشعب في السلبية المطلقة والرضوخ الآلي.  

الآثار النفسية لهذا النظام الاجتماعي بالغة، فهي تدخل في صلب وعي الإنسان لذاته ولمحيطه. فالفرد حين يحرم من حقه في الخصوصية، ويدرك أنه تحت رحمة عيون تراقبه بلا كلل، وأن كل خطوة يخطوها عرضة للتقييم، فإن علاقته بنفسه ستتغير لإنعدام فرصة إختلائه بها. والمثير للسخرية هو أن هذه القوة التي تسيطر على وعي الملايين من الصينيين اليوم هي من طبيعة جامدة خالية من الوعي. 

ويبدو أننا بلغنا مرحلة حرجة من التاريخ، حيث سبق التطور الفعلي، قدرة الخيال العلمي على توقع المستقبل. فحتى الآن، لم يكن تحول من هذا النوع ممكناً سوى في عوالم الديستوبيا. أما فكرة نظام الإئتمان بالذات، فقد رأيناها في حلقة من مسلسل Black Mirror الديستوبي الذي تجري أحداثه في المستقبل. إلا أن هذه الحلقة عرضت منذ سنتين فقط، فيما تطوّر الصين هذا المشروع منذ العام 2014. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها