الخميس 2018/08/23

آخر تحديث: 17:19 (بيروت)

الـ"100".. أغاثا كريستي تُبعَث مع نهاية العالَم

الخميس 2018/08/23
الـ"100".. أغاثا كريستي تُبعَث مع نهاية العالَم
increase حجم الخط decrease
أجمل ما في سلسلة "ذا 100" التي انتهى عرض موسمها الخامس مؤخراً، أنها تعيد الإنسان إلى حجمه الطبيعي، ككائن يكافح من أجل البقاء فقط من دون غايات أخرى، وتنزع عنه بالتالي صفة التفوق المفترضة عن بقية الكائنات، كالحيوانات والنباتات والحشرات، بحصر دوافعه مهما تعددت مستوياتها بخدمة ذلك الهدف الأسمى، ضمن نظام الطبيعة الذي يحكم الحياة على الكوكب.


وتحاكي سلسلة الخيال العلمي التي طورتها شبكة "CW" الأميركية، حقبة ما بعد نهاية العالم بفعل كارثة نووية غامضة، وترصد حياة الناجين بعد زوال الحضارة البشرية، بمفهومها المجتمعي، مع بقاء الكثير من الأدوات والتقنيات موجودة لدى بعض الناجين من أبطال العمل، وتحديداً أولئك الذين لجؤوا إلى الفضاء الخارجي هرباً من الإشعاع النووي. ويعني ذلك زوال المجتمعات البشرية التي هيمنت على الكوكب وتسببت تقنياً بدماره، وعودة الإنسان لأصله ككائن مفترس يصارع للبقاء ضمن ظروف صعبة ومتغيرة.


ورغم أن العمل المشوق يمتلئ بالصراعات المتباينة بين الشخصيات، التي تتقلب ولاءاتها طبقاً لنظرتها الخاصة للنجاة، إلا أن العمل في أحداثه وحواراته يرجع دائماً إلى نقطة الصفر، وهي أن الحضارة البشرية هي الخطر الأول للكوكب ولمفهوم الحياة، رغم أن الإنسان اعتمد على التطور الحضاري طوال آلاف السنين لتحسين أسلوب حياته وزيادة فرص نجاته في عالم متقلب. ويصبح بالتالي اكتشاف الزراعة مثلاً غلطة غيرت مسار الحياة برمتها على الكوكب نحو مصير محتوم بالدمار نتيجة الأسلحة النووية. فضلاً عن أن الحضارة جعلت الإنسان كائناً أقوى مما يجب بانتفاء وجود أعداء طبيعيين له ضمن النظام البيئي، ما خلق أزمة في موارد الكوكب في نهاية المطاف.

تشكل هذه الأفكار امتداداً بعيداً لأحداث العمل، فالكارثة النووية تسبب بها برنامج متطور للذكاء الصناعي صمم أصلاً لتحسين حياة النوع البشري، لكن ذلك الذكاء المتطور وجد، بدرجة لا تستوجب الشك، أن مشكلة البشر هي البشر أنفسهم. أي أن الإنسان هو عدو نفسه، وأن التزايد الهائل في أعداد البشر ضمن ييئة تستهلك بوتيرة أسرع من قدرتها على تجديد نفسها، سيكون كارثياً، ومن هنا تدخل الذكاء الصناعي لخلق أزمة نووية تساعد البشر على البدء من جديد بحياة أفضل عبر قتل 7 مليار إنسان.

وفيما يبدو هذا الطرح مظلماً ومخيفاً وأقرب للعدمية، إلا أنه واقعي للأسف، فالتقارير الأخيرة تشير إلى وصول "يوم استنزاف الأرض" وهو مقياس بيئي للنقطة التي يتجاوز فيها الاستهلاك قدرة الطبيعة على التجدد، مستويات قياسية، ما يعني أن قدرة الأرض على تجديد مواردها باتت في خطر متسارع بسبب الحضارة البشرية نفسها، علماً أن أن الأفكار السابقة تتكثف منذ الموسم الرابع من السلسلة، مع انتحار مجموعة من الناجين لإيمانهم بأن الكارثة تكمن في البشر أنفسهم وليس في مجموعة شريرة منهم فقط.

وفي الموسم الخامس، تحدث كارثة نووية أخرى بفعل المفاعلات النووية المتبقية على الكوكب منذ الكارثة الأولى، ومع نجاة المجموعة الأخيرة من البشر، ينتقل الصراع بعد سنوات من الاختباء تحت الأرض في ملاجئ، إلى الاستحواذ على آخر مساحة صالحة للحياة على الكوكب الذي تحول إلى صحراء تعصف فيها الرياح المحملة بالإشعاعات النووية. لكن ذلك الصراع من أجل النجاة يقود بالنهاية إلى دمار تلك البقعة النادرة ونهاية الحياة على الأرض للأبد، ومن المروع رؤية الكوكب من الفضاء الخارجي وقد استحال إلى صورة محزنة لا وجود للون الأزرق الجميل فيها.

اللافت أن السلسلة تضم عشرات الشخصيات القيادية، وكل منهم يتصرف ويتحدث بمنطق النجاة، لكن تلك النجاة تنقسم إلى النجاة الشخصية لدى شخصيات توصف بأنها أنانية وانتهازية مثل جون ميرفي، الذي يجسد الإنسان البدائي بصورته الأكثر بعداً عن رتوش الحضارة، مقارنة مع الشخصيات الأسوأ والتي تنادي بمصطلحات مثل نجاة الجنس البشري، في مسعاها للنفوذ وتخليص شخصيات مختارة من الموت القادم لا محالة، انطلاقاً من عواطف شخصية، فشخصية الطبيبة آبي تسعى دائماً لإبقاء ابنتها كلارك على قيد الحياة، ليس لأنها تريد إنقاذ الجنس البشري بل لأنها لا تستطيع الحياة من دونها، وعندما تفقدها تصبح الأم، التي كانت قائدة للجنس البشري برمته في مرحلة من المراحل، مجرد مدمنة على المخدرات بشكل مثير للشفقة.

ويجب القول أن السلسلة تعتمد نمطاً مشابهاً في بناء شخصياتها لما تقوم به الكاتبة البريطانية أغاثا كريستي في رواياتها البوليسية، من منطلق أن الأنماط البشرية واحدة وتكرر نفسها على اختلاف الزمن واختلاف الوسائل، وبالتالي تصبح الشخصيات المتصارعة امتداداً لصراعات مماثلة في دول العالم المعاصر، بين اليمين واليسار كطبقات سياسية أو بين السياسيين والعسكر ورجال الدين والعلماء، وحتى بين الأفراد أنفسهم من أصحاب أي اتجاه فكري، يشكل في النهاية هويتهم التي يحاولون النجاة وفقها.

والحال أن السلسلة تشكل نموذجاً مبهراً في فن خلق الأحداث، بالاستناد إلى قيمتين أساسيتين هما الصراع والفوضى، وبينهما تخلق قيمة الانتماء المحددة بدورها للولاءات العاطفية كالحب والانتقام، ومع تعدد هذه المستويات وتقلب الشخصيات في علاقاتها، يحافظ العمل على تشويق متصاعد يرافقه توتر دائم بفضل يقين مسبق بكارثة قادمة لا محالة، وذلك بسبب اختلاف توجهات الشخصيات حتى ضمن الجماعة الواحدة، وعودة كل شخصية إلى الدفاع عن نجاتها الخاصة عندما يواجه فريقها أزمة ما.

يترافق ذلك كله مع إنتاج فاخر وتقنيات بصرية استثنائية، لخلق عوالم متنوعة ضمن المسلسل، مع اختلاف الجماعات البشرية المتبقية، بين البدائيين (الأرضيين) وبين أصحاب التكنولوجيا القادمين من الفضاء بعد انتهاء الأزمة النووية الأولى. كما يرصد العمل العلاقة المعقدة بين التكنولوجيا والدين ونشوء المعتقدات الماورائية وتحديداً أسطورة الجنة والحياة الأبدية والمدينة الفاضلة. وكلها أفكار يروج لها الذكاء الصناعي المستمر في الوجود بعد الأزمة النووية، من أجل "سعادة البشرية" ضمن "مدينة النور" التي يحاول سجن الوعي البشري فيها، بمعزل عن وجودهم المادي الخطر عليهم وعلى الحياة عموماً.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها