السبت 2018/07/14

آخر تحديث: 14:03 (بيروت)

عن بالون ترامب في لندن

السبت 2018/07/14
عن بالون ترامب في لندن
increase حجم الخط decrease
للحظة، بدت صور البالون العملاق الممثل للرئيس الأميركي دونالد ترامب، في سماء لندن، قادرة على سحب الاهتمام العالمي، في الميديا ومواقع التواصل، من كأس العالم لكرة القدم وبطولة ويمبلدون للتنس وألبوم المغني الشهير درايك، وغيرها من الفعاليات الترفيهية المثيرة حالياً. لكن ذلك الاهتمام خبا بشكل طبيعي، مع التسليم بأن فعاليات من هذا النوع ليست مؤثرة سياسياً، بقدر ما هي هامش تتيحه الدول الديموقراطية للناس من أجل التعبير عن أنفسهم والتفريغ عن غضبهم.

وفيما يرى البعض أن البالون العملاق كان وسيلة مبتكرة للاحتجاج، إلا أن الاحتجاج نفسه يبدو كلمة مبالغاً فيها أمام المشهد الأقرب لجولة سياحية، التقط فيها الناس الصور ورفعوها إلى صفحاتهم الشخصية، كإثبات لليبراليتهم "النبيلة"، ربما أكثر من كونه إيماناً منهم بقدرتهم على التغيير. ويظهر ذلك في تصريحات الناشطين المنظمين للتظاهرة، إلى صحف بريطانية، ومنها "إندبندنت"، ومقالات كتبوها في "غارديان".

الجدل بأن الفعالية كانت صبيانية وأقرب إلى فشة خلق، لا ينسحب على التظاهر نفسه كفعل ونشاط إنساني، في العموم. فالفرق بين التظاهر هنا، وبين "مسيرات الفخر المثلية" أو المظاهرات المطالبة بحقوق النساء ضمن حملات تاريخية مثل "#مي توو"، وحتى المظاهرات المطالبة بالديموقراطية في إطار الربيع العربي سابقاً، هو وجود قضايا مصيرية ومطالب واضحة تجعل من التظاهر في الحالات مؤثراً خصوصاً أنه موجه إلى جهات محددة وتقوده جهات فاعلة ومحددة أيضاً بشكل أكثر تنظيماً.

ولا يتعلق ذلك فقط بكون التظاهرات منظمة من طرف مجموعة من الفنانين المناهضين للفاشية، بوصفهم شخصيات نخوبية تخاطب ذاتها فقط، في لندن الغارقة في صدمة "البريكست"، بل لأن التظاهرات تفشل في توصيف نفسها بدقة كحركة مدافعة عن المصالح الليبرالية اقتصادياً وسياسياً لا القيم الرومانسية، وتحويلها بالتالي لقيادة حركة عالمية ضد سياسات ترامب "العنصرية" و"العدائية"، على غرار حركتي "تايمز أب" و"مي توو"، بدلاً من ان تكون موجهة ضد شخص ترامب نفسه.

والحال أن هذه المشكلة هي المشكلة نفسها لدى الصحف الأميركية، التي تتعاطى مع ترامب من منطق فوقي متعال، ومازالت حتى اليوم تلعب دور رد الفعل تجاه سياسات ترامب وعاجزة في الوقت نفسه عن التنبؤ بقراراته، سواء كان ذلك فصل موظفيه الأقرب إليه في البيت الأبيض أو توجيه ضربة عسكرية للنظام السوري أو تطبيق سياسات هجرة أشد قسوة أو لقاء مع زعيم كوريا الشمالية لتخليص العالم من خطر حرب نووية.

ويعني ذلك أن الحملة المناهضة لترامب، سواء في مقال تنشره "واشنطن بوست" أو بالون يطير في سماء لندن، تبقى محصورة في شخصه، بدلاً من أن تتبلور في موقف يتحدث بوضوح عن مشاكل سياسته، وربما الطبقة الليبرالية التي شكلت قيمها مقياساً للحضارة العالمية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وبالتحديد في الولايات المتحدة. حيث شكل الليبراليون، ممثَّلين في الحزب الديموقراطي، عنصر توازن ضد الجمهوريين المحافظين، قبل أن ينكسر ذلك التوازن بطبقة المحافظين الجدد، التي تبلورت أيام الرئيس السابق جورج بوش الابن، ويمكن تلمس دورها داخل الكونغرس مثلاً عبر "تيار الحرية" خلال مباحثات تغيير قانون الرعاية الصحية "أوباما كير" العام الماضي.

بعكس ذلك، تُكرر تظاهرات لندن مع البالون "الساخر" و"الحس الفكاهي"، ما تقوله الصحف الليبرالية الأميركية منذ أيام حملة ترامب للرئاسة العام 2016، بأن ترامب ليس سوى دخيل أخرق على عالم السياسة، وأنه أحمق قادر على تدمير العالم بتغريدة واحدة في "تويتر". وفي ذلك "ظلم" لبراعة الرجل الآتي من عالم الاقتصاد والعقارات وتلفزيون الواقع من جهة، وإنكار لحقيقة أن ملايين الناس انتخبته في عملية ديموقراطية من جهة ثانية، بغض النظر عن فكرة التدخل الروسي الذي لم يثبت مدى أثره بعد سنوات من التحقيق.

وبين تظاهرة لندن، وتغطيات الصحف في الطرف الآخر من المحيط الأطلسي، تتكرر فكرة أن ترامب هو السبب في انهيار النظام العالمي ونشوء نظام جديد أكثر توحشاً ضد القيم الإنسانية. لكن ترامب، قد يكون، من وجهة نظر أخرى، نتيجة لانهيار النظام العالمي أصلاً قبل سنوات، والذي بدأت ملامحه بالظهور العام 2008 مع الأزمة المالية العالمية في الولايات المتحدة ودول أخرى، والمشكلة الروسية البسيطة في جورجيا، قبل أن تبرز ملامحه في الغزو الروسي لأوكرانيا وتدخل موسكو المباشر في سوريا العام 2015، قبل حقبة ترامب الرئاسية أصلاً.

ما لا تقوله التظاهرات والصحف الأميركية هنا، أن العداء الشخصي لترامب له أسبابه الموضوعية التي يتم الالتفاف عليها بمهاجمة "عنصريته" و"لا إنسانيته" كقيم مضادة، بدلاً من التحليل المنطقي بأن سياسة ترامب الاقتصادية "أميركا أولاً" - كتجسيد للشعبوية التي تغزو بقية أجزاء العالم اليوم - تهدد وجود ومكانة النخبة الليبرالية في الدول الغربية التي اكتسبت نفوذاً كبيراً حول العالم، وتأتي مكانتها من قيادة الولايات المتحدة للعالم، عبر مؤسسات لتعزيز السلام (الأمم المتحدة)، والتنمية الاقتصادية (البنك الدولي)، والتجارة والاستثمار (صندوق النقد الدولي) مع دعمها بالقوة الاقتصادية والعسكرية التي تمتلكها واشنطن إلى جانب شبكة من التحالفات عبر أوروبا وآسيا.

وإن كان العالم حالياً في حرب بين التيارات المختلفة، بما في ذلك التيار الليبرالي المنحسر تدريجياً، فإن ما يحدث في لندن وفي صحف الولايات المتحدة، التي لم تصحُ بعد من صدمة خسارة ممثلتها هيلاري كلينتون للانتخابات الرئاسية العام 2016، ليس عبثياً. بل هو جزء من محاولة خلق سياق ثقافي للمشهد المتوتر عالمياً، بطريقة قد تشابه فلسفة الحضارات التي تحدث عنها المفكر صامويل هنتنغتون في تسعينيات القرن الماضي.

وبذلك، قد لا يصبح البالون العملاق في لندن صبياناً بقدر ما هو استماتة لجذب الأنظار. لكن ذلك لا يحول دون تحول المشهد في لندن إلى عرض محزن، ليس لعجز أصحابه المعدودين فقط عن خلق السياق المنشود، بل لتمتع المشاركين فيه بذلك العجز، فصور السيلفي مع بالون ترامب ليست تعبيراً ذاتياً عن الانتماء "النبيل" للهوية الليبرالية، بقدر ما هي اصطفاف في معسكر ضد معسكر آخر، وتسليم بأن العالم بات مقسماً أمام مد الشعبوية والقوميات الجديدة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها