الأحد 2018/06/24

آخر تحديث: 16:33 (بيروت)

أميركا ليست ترامب..ولن تكون مثله

الأحد 2018/06/24
أميركا ليست ترامب..ولن تكون مثله
increase حجم الخط decrease
يبدو حجم الصدمة العالمية التي رافقت أزمة الأطفال المهاجرين في الولايات المتحدة، والتباكي على الإنسانية الضائعة على الكوكب، دراماتيكياً وغير مبرر، فهذا النوع من المشاهد الموجعة للضمير الإنساني، بات طبيعياً طوال قرون من الحكم السلطوي، حيث يقوم رجال السياسة ورجال الدين وغيرهم من أصحاب النفوذ بمثل هذه الممارسات ضد الضعفاء. الجديد فقط، والمثير للإعجاب، هو ردة الفعل المجتمعية التي أجبرت الرئيس الأميركي دونالد ترامب على التراجع عن قراره. 

ردة الفعل تلك لم تكن لتحدث لولا الديموقراطية، كمحدد للحكم والسلطة. آلاف الجرائم التي قد تتفوق على جريمة ترامب في مستوى الفظاعة، تحدث يومياً في العالم، من دون أي تغيير أو محاسبة أو فرق في مستوى الدموع التي تذرف على الشاشات وعبر مواقع التواصل الاجتماعي بلا أثر. في سوريا مثلاً ارتكبت جرائم مروعة ضد الإنسانية طوال ثماني سنوات من الحرب في البلاد، من قبل النظام السوري أو التنظيمات الجهادية على حد سواء، ومشهد وضع الناس في الأقفاص واستخدامهم كدروع بشرية كان حاضراً في مدينة دوما بريف دمشق على سبيل المثال، ولم ينته كل ذلك إلا بالحرب والدم ومزيد من العنف، بغض النظر عن مآلات الحرب ونتائجها والمنتصرين فيها. 

المشهد في الولايات المتحدة قد لا يكون مختلفاً كثيراً، صحيح أن لا حرب هناك بالمعنى التقليدي، لكن حرباً على الديموقراطية تجري بوضوح، حسبما تشير الصحافة الأميركية، منذ التدخلات في انتخابات العام 2016 التي أوصلت ترامب لقمة السلطة الأميركية، وهي تدخلات تتهم فيها روسيا وزعيمها فلاديمير بوتين الحالم بمجد سوفياتي قديم. علماً أن ما يقوم به ترامب يحمل شيئاً من المنطق، بعكس منطق اللامنطق في مناطق النزاعات، حيث يمكنه على الأقل الاستناد إلى أنه يحمي الأطفال المهاجرين من أهلهم الذين ينتهكون طفولتهم بإرسالهم عبر طرق اللجوء الخطرة من أجل الحصول على حق لم الشمل لأسرهم لاحقاً، وهو أمر تكرر في حالة اللجوء السوري إلى أوروبا كما هو معروف.

تحرك ترامب ضد الأطفال قد يكون متطرفاً، لكنه يخلو من المفاجأة، فمنذ حملته الانتخابية الجدلية، التي بناها على إحساس قومي عال يرفض المهاجرين واللاجئين من عرقيات وثقافات مختلفة ضمن سياسته الاقتصادية "أميركا أولاً"، كرر ترامب، وهو أول رئيس للولايات المتحدة من دون امتلاك خلفية عسكرية أو دبلوماسية سابقة، الخطاب نفسه الذي تحول إلى أفعال وقرارات مشابهة، بداية بمنع المسافرين من دول إسلامية، من دخول الولايات المتحدة، وحينها كانت الصور الآتية من المطارات الأميركية "مروعة"، حسب التعبير التعاطفي السائد، وصولاً إلى حديث ترامب المتكرر عن بناء جدار فاصل مع المكسيك أو حتى أزماته السياسية مع حلفائه، في ملفات تجارية وعسكرية ودبلوماسية، كالملف النووي الإيراني واتفاقية باريس للمناخ.

والقول إن ترامب مجنون أو عنصري أو مختل يحكم البيت الأبيض ويعرض العالم للخطر، ليس دقيقاً، فالرجل وصل لذروة السلطة في واشنطن بالديموقراطية . فهو يتمتع بنسبة تأييد هي الأعلى له بعد نحو 500 يوم له في البيت الأبيض، حيث أظهر استطلاع للرأي نشرته وكالة "أسوشييتد برس" ارتفاع شعبية ترامب إلى 55% بين الأميركيين مقارنة بـ 42% في آذار/مارس الماضي و34% فقط في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، علماً أن 87% من الجمهوريين أبدوا تأييدهم له، وذلك بعد قمته التاريخية مع الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، في وقت سابق من الشهر الجاري، وهي نسبة تخطى بها شعبية رؤساء مثل باراك أوباما وجون كينيدي، ضمن قاعدتهم الحزبية. 
ولعل هذا هو السبب الذي دفع ترامب للمغامرة بتطبيق سياسة هجرة أكثر تشدداً، والتي تمثلت بفصل الأطفال عن أهلهم، وإنشاء ثلاثة مراكز رعاية في تكساس، ومشاهد الأقفاص التي أبكت المذيعات الأميركيات على الشاشات، في صدمة: "إنها ليست أميركا". كما أن هذه اللعبة الانتخابية غير النهائية، هي التي أسهمت في تراجع ترامب عن قراره لاحقاً، بعد انخفاض التأييد العام له إلى حدود 33% مجدداً حسبما تشير شبكة "سي بي إس نيوز" الأميركية. أي أن الضغط الشعبي، وحده، هو الذي دفع ترامب للتراجع عن "الجريمة". 

التفاعل مع الصور الآتية من الجانب الآخر من العالم، كان مسلياً، حيث السباب الإلكتروني ضد "الهمجية الأميركية". البعض كان يتحدث عن عظمة الحضارات المحلية والأديان السمحة، من دون الإشارة للديموقراطية الأميركية، التي سمحت بظهور ترامب على الساحة السياسية لتلبيته حاجات ملايين الناخبين، وسمحت بكبح جماح تطرفه أيضاً. وإن كان الأسبوع الأخير مظلماً في التاريخ الأميركي، إلا أن النقطة المضئية الوحيدة فيه هي النشاط العام الذي يبرز قوة الناس العاديين كناخبين يحددون مسار السلطة وتقلبها كل أربع سنوات في انتخابات حرة.

النشاط الإلكتروني في "تويتر" والصحافة الأميركية التي استعادت بريقها كسلطة أولى لا رابعة، أمران تبلورا في الأسبوع الأميركي الأخير، لقد هزت سجون الأطفال أميركا من صميمها وأحيت قوة التعاطف في شعب "بلا قلب" حسب الصورة النمطية، دموع المذيعة الأميركية رايتشل مادو على الهواء مباشرة كانت لقطة مؤثرة، وآلاف التغريدات من مشاهير الولايات المتحدة كانت قوية ومؤثرة، لكن الأقوى كان الشعب الأميركي الذي رفض السياسة غير الأخلاقية لحكومته وغمر الكونغرس بالمكالمات الهاتفية والرسائل الإلكترونية، وحملات التبرعات التي جمعت ملايين الدولارات للمساعدة في تمويل التكلفة القانونية للعائلات المهاجرة، علماً أن الحملات شملت أشخاصاً لا يبالون عادة بالمشاركة في النشاط السياسي أو الشأن العام.

وهكذا صرخ الأميركيون في "تويتر": أميركا ليست ترامب، بل هي دولة مؤسسات عريقة وشخصيات حضارية. وهي أيضاً تاريخ طويل من الكفاح المدني من أجل حقوق المرأة والمثليين والسود والأقليات العرقية، ترجم إلى قوانين وحقوق دستورية، وهو تاريخ ليس من السهل تجاوزه أو إلغاؤه، وعليه يجب القول أنه مهما كان ترامب المنتشي بإنجازاته الخارجية في ملفات إيران وكوريا الشمالية، ويقارب سلطويي العالم ودكتاتورييه، كفلاديمير بوتين وبشار الأسد، فإن تلك النماذج لا تقارب أميركا في شيء، مهما حاول ترامب تحويلها إلى نموذج مظلم لا يمت لتطورها الحضاري بصلة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها