الأحد 2017/06/04

آخر تحديث: 14:20 (بيروت)

الهايكو العربي..السوشيال ميديا تخطف القصيدة

الأحد 2017/06/04
الهايكو العربي..السوشيال ميديا تخطف القصيدة
تتعاطى الصفحات العربية مع الهايكو كقشرة ظاهرية وليس كمحتوى فلسفي عميق
increase حجم الخط decrease

الهايكو العربي، عبارة فضفاضة، أو عباءة بالونية اندرجت في طياتها عشرات الثيمات، بين قالب هايكو، وقصيدة مضغوطة، وقصيرة القصيرة، ونانو، وومضة، ونص ثلاثي الكلمات، وغيرها. هذه الأشكال العربية يتفاعل معها، على مستويي الكتابة والتلقي، مئات الآلاف من العرب، من أجيال مختلفة، بوصفها الاختزال الأمثل للشعرية، بل ويراها البعض تجارب طليعية في مسار الهايكو العالمي، في حين أن قراءة واعية راصدة لتجليات ذلك الفن وجوهره المدهش، ستضفي على أغلبية محاولات الهايكو بالعربية صفة الفجاجة، بما يُبرز أنها في مجملها تكاد تكون منظومة خواطر ضحلة، صنعتها وروّجتها بالأساس صفحات السوشيال ميديا، ولذلك لم تستطع أن تتخطى فضاءها بعد، كي تنصهر في نسيج حركة الإبداع الشعري العربي.

"نُورُ قَمَرِ رَمَضَان/ يَبلُغُ أَعمَاقَ البُحَيرَةِ/ الصَّافِيَةِ"، نموذج لأحدث نصوص صفحة "عشاق الهايكو"، التي يتابعها قرابة خمسة آلاف عربي، وهو للتونسي زويتن الهادي، مع بزوغ هلال شهر رمضان الجاري. أما صفحة "نادي الهايكو الحر"، فشهدت بدورها العديد من رمضانيات الهايكو، منها نص شريف قاسم: "وراء القضبان/ يجلجل منتصراً/ إضرابُ الحريّة والكرامة"، في حين كتبت فتيحة بن ذكري: "هلال رمضان/ من أعلى الشرفة/ إلى أعماق القلب"، وكتبت وفاء زمزم تحية الهايكو الرمضانية، أو تحية رمضان الهايكوية: "رمضان بخير/ المهم أن تكونوا/ أنتم بخير"!

ويجوز الحديث عن الوافد بوصفه أصيلاً، والمحلي باعتباره مستنسخاً، في مجالات الفنون والآداب والفكر والفلسفة، فقط حينما تبدو المقارنة التحليلية الموضوعية بين النتاجين بمثابة نكتة باردة، ومن ثم تجدر حينها التفرقة بين لون إبداعي مكتمل الأركان، ومحاولات هشة للتقليد أو ابتداع نمط موازٍ لم تتبلور ملامحه بعد على نحو جدّي. وهنا يمكن تصنيف "الهايكو العربي"، بكل ثيماته المتاحة، إلى مسارات عدة: قصائد هايكو مطبوعة ورقيّاً في دواوين  ومجلات، هايكو إلكتروني عبر صفحات السوشيال ميديا ومن خلال كتب ومجلات وإصدارات رقمية، واستحداثات عربية موازية تستلهم الهايكو من قبيل: قصيدة النانو، الومضات، وغيرها. والتي قد تكون بعيدة عن ماهية الهايكو، وجوهره، وفلسفته، بوصفه منتجاً أصيلاً أضاف الكثير إلى رصيد الإبداع الإنساني، بأيدي صُنّاعه في اليابان والشرق الأقصى، ومُطوِّريه في أوروبا والولايات المتحدة.

تنبني فلسفة الهايكو في الأساس على التخلص من الذهنية، وترك القصيدة تنساب تلقائياً وفق تدفق شعوري زاخم، مع طفولية في التعبير، وانسجام مع الطبيعة حد التماهي معها مع خصائص التلقائية وغياب الطرح الأيديولوجي. والهايكو الأصل، هو نوع من الشعر الياباني، يحاول فيه الشاعر من خلال ألفاظ بسيطة التعبير عن مشاعر جياشة وأحاسيس عميقة متفاعلة مع الطقس الخارجي أو الفصول الأربعة. وتتألف قصائد الهايكو من بيت واحد فقط، مكون من سبعة عشر مقطعاً صوتياً باللغة اليابانية، وتكتب عادة في ثلاثة أسطر.

وبالنظر إلى إحدى قصائد الهايكو التأسيسية، تتجلى هذه السمات بوضوح، يقول "باشو" (1644-1694م) شاعر الهايكو الياباني الأكبر: "صفصاف أخضر/ تتقاطر أغصانه على الطمي/ أثناء الجزر"، وفي هايكو آخر للشاعر ذاته ملامح أكثر وضوحاً من التفاعل مع الطبيعة، وتحقق حركية النص الخاطف صوتاً وصورة، بطفولية وتلقائية: "تشدو/ القبرة طوال النهار/ والنهار ليس بالطول الكافي".

ولعل تجليات الهايكو في الولايات المتحدة، وأوروبا، بدت متحللة بعض الشيء من صرامة القيود الكلاسيكية في الهايكو الياباني، من الناحية الشكلية والموسيقية، لكن علامات الهايكو الأصيلة لم تتبدل، بل على العكس، ازداد التركيز على مبادئ الارتجالية والطفولية والتماهي مع الطبيعة ونبذ الذهنية، فضلًا عن إفساح البطولة للصورة والحركة.

ويعد الأميركي "جاك كيرواك" (1922-1969) واحدًا من  أبرز شعراء الهايكو الغربي، بتمثلاته الجديدة. يقول كيرواك في أحد نصوصه، بترجمة السورية لينا شدود في كتابها الصادر عن "منشورات ضفاف والاختلاف": "العشب يلوِّحُ/ الدجاج يقوقئ/ لا شيء يحدثُ". كذلك، من شعراء الهايكو اللافتين في العالم الغربي، السويدي توماس ترانسترومر، صاحب نوبل، وقد طور الهايكو كثيراً في ما يخص تحليل الحالة الداخلية للإنسان، من دون تعقيد. يقول ترانسترومر في نص هايكو (بترجمة ياسر عبد الله في موقع قديتا): "مَشهدٌ على الرّصيفِ/ يا لهُ من هدوءٍ غريبٍ/ ذلكَ الصوتُ الداخليُّ".

بالعودة إلى "الهايكو العربي"، يمكن تعيين مسارات عدة سلكتها المحاولات العربية للتفاعل مع هذا الفن - الذي وصل إلى العالم العربي من خلال اللغات الأوروبية أولاً، قبل أن يصل من خلال ترجمات مباشرة عن اللغة اليابانية - وروّجت لها "السوشيال ميديا" على نطاق واسع، في صفحات يتابعها الآلاف، رغم أن ذلك المنتج يبقى خارج حركة الشعر العربي المتنامية، فضلاً عن بعده عن جوهر الهايكو "الأصلي" وفلسفته الإنسانية العميقة.

ويتمثل المسار الأول بقصائد الهايكو المطبوعة ورقيّاً في دواوين أو مجلات، مثل ديوان "جنازات الدمى/ قصائد هايكو"، الصادر عن "دار النهضة العربية" في بيروت، للشاعر والطبيب اللبناني ربيع الأتات. ولعل هذا المسار هو الأكثر جدية في تمثله لمعطيات وعلامات الهايكو الوافد: "أمرُّ بالنهرِ الذي جفّ/ فأتعثّرُ/ بأحجارِ طفولتي". على أن طزاجة النص تبدو عادة مغلفة بيد الذكاء الشعري أو ما يمكن رده إلى الاصطناع بالمعنى الجمالي: "أقفلُ النافذة/ أغلقُ عينيّ/ كلّ الرياح لا تزال في رأسي". القصيدة في مثل هذا النسق تبقى أحياناً رهن التفكير، حيث إن صورة الهايكو ذاتها مرسومة نظرياً لدى الشاعر أكثر منها معيشة: "عند برج إيفل/ بائع أسمر لقبعات/ كتب عليها أحبّ نيويورك".

المسار الثاني، الأكثر انتشاراً، هو الهايكو الإلكتروني عبر صفحات السوشيال ميديا ومن خلال كتب ومجلات وإصدارات رقمية، يتابعها عشرات الآلاف عبر الإنترنت، ويتفاعلون معها كتابة وقراءة، وفي هذا الإطار صفحة "هايكو وشعر" للسوري الدكتور رامز طويلة، الذي يعرف نفسه بأنه "شاعر وهايكست"، وتستضيف صفحته بشكل يومي عشرات النصوص لشعراء من سائر الأقطار، فضلًا عن نصوصه هو نفسه، التي يحاكي فيها الهايكو الوافد بمعرفة ووعي يبدوان أحياناً كافيين لتصنيع منتج عربي مماثل: هَـبَّةُ ريح/ تتدافـعُ الأوراقُ السَّاقِطة/ إلى جذعٍ مائل".

وثمة مئات الصفحات المشابهة، التي تتعاطى مع فن الهايكو كقشرة ظاهرية أو خواطر طريفة أو مادة للتواصل الاجتماعي، وليس كمحتوى إبداعي وفلسفة جوانية متعمقة ورؤية للوجود، منها صفحة "نادي الهايكو العربي"، التي نشرت عشرات الكتب والإصدارات الإلكترونية لروادها، كديوان "أزهار الكرز" للتونسي زيتون الهادي. وهو أحد رواد صفحة "عشاق الهايكو" التي تنشر نماذج ذهنية مسطحة تصفها بأنها هايكو، من قبيل ما كتبه بنفسه قبيل شهر رمضان: "نُورُ قَمَرِ رَمَضَان/ يَبلُغُ أَعمَاقَ البُحَيرَةِ/ الصَّافِيَةِ".

الطريف، أن عدداً من هذه الصفحات "الاجتماعية" تقدم لمتابعيها وصفة سحرية أو روشتة لكيفية كتابة قصيدة الهايكو "سريعة التحضير" عبر خطوات قليلة. يقول "مانفستو" صفحة "نخبة شعراء الهايكو"، مخاطباً رواد الصفحة: صديقاتنا وأصدقاءنا، الوافدين الجدد إلى الهايكو، أهلاً وسهلاً ومرحباً، تحيّة طيّبة ومساء الخير. يُعتبرُ الهايكو الشكلَ الشعريَّ الأقصرَ والأكثرَ اقتضاباً وإيجازاً في العالم، ولذلك فإنّه لا يعْتمدُ في شعريّته بشكلٍ كلّيّ على لغته التي هي أداته فقط في توصيل الصورة أو الصور أو الأحداث الحاضرة الموحية التي تكاد تكون ناطقة لوحدها، ويبدأ من هذا السؤال: هل تستطيع كتابة قصيدة شعريّة من ثلاثة أسطر، بلغة بسيطة وواضحة، على ألا تستخدم المجازات من تشبيه أو استعارات أو... إلخ، بالطريقة التي نعرفها، يعني أن تحاول ألا تعتمد في شعريّتك على المحسّنات البديعيّة أو التجميل اللغوي أو اللغة الخَطَابِيَّة أو لغة التجريد؟".

ثم تأتي الإجابة الشافية، التي تشرح خطوات كتابة قصيدة هايكو عربية بمعرفة السوشيال ميديا: "على القصيدة أن تحتوي على مشهد حسّيّ حاضر واحد على الأقل، هذا يعني ألا تكون لغتها مجرّدة عن الحواسّ الخمس والمحسوسات والواقع، وألا تكون كلّيّتها في الماضي، وألا تكون قصّة قصيرة جدًّا، وألا تحتوي على أخطاء نحويّة أو أخطاء إملائيّة. هذا هو التحدّي الذي يضعه الهايكو أمامكم. فلنجرّبه معًا كنوع شعري جديد ومختلف!".

هكذا، ببساطة، يمكن أن تحفل صفحة "نخبة شعراء الهايكو"، صاحبة المانفستو السابق، بعشرات النماذج من قبيل قصيدة حمدي محمد: "الربيع في بلادي/ أزهاره مستوردة/ ذبح من المحيط إلى الخليج"، وقصيدة هيفاء أحمد: "بثوبها الجديد/ تقفزْ الطفلة/ في البركةِ الموحلة"، إذ يتحرى الهايكست خطوط الوصفة الجاهزة، ويلتزم بها حرفياً وفق معرفية محنطة.

وفي صفحات مماثلة، قصائد هايكو لا تخرج عن هذا الإطار الشكلي، فها هي صفحة "الهايكو - سوريا" تنشر للسوري منذر علي: "شاعر التفعيلة/ تعجبه اختصارات الهايكو/ ذات الرداء القصير"، وتنشر صفحة "نادي الهايكو العربي" لرضوان حلوان نصاً ذهنياً يرتدي هيئة الهايكو: "يُذبح ديك العائلة/ كي يؤخر/ طلوع الفجر عن القرية"، وآخر لمريم الحلو يكاد يخلو من علامات الهايكو وسماته الجوهرية: "أرى ما لا ترى/ وترى ما لا أرى/ فمن أنت يا أنا؟".

أما المسار الثالث، الذي سلكه الهايكو العربي، فهو مسار الاستحداثات العربية الموازية الي تستلهم الهايكو، من دون تقيد تام به، وفي هذا الإطار: قصيدة النانو، قصيدة الومضة، وما إلى ذلك. وقصيدة النانو نمط من الشعر المكثف، المضغوط، أفرد له الشاعر العراقي أسعد الجبوري صفحة في فايسبوك" بعنوان "Nano Poems"، ويصف هذه التجارب بأنها "مجموعة من الأدوات والتقنيّات والتطبيقات التي تتعلّق بتصنيع بنية معيّنة وتركيبها باستخدام مقاييس في غاية الصغر". ويقول الجبوري إنها "محاولات لتطبيق هذه النظرية الاختزالية على مستويات الكتابة الشعرية لتكون مشروعاً عاماً. قد تكون بعض التطبيقات مدهشة في الشعر، لذلك سنجرّب من دون حرج، سنتخيّل ونكتب".

وعادة ما تأتي قصيدة النانو مصحوبة بصورة تشكيلية، ليتحاور الحرف مع اللون. ومن بين ما كتبه الجبوري في "مشروع الشعر المضغوط" أو "النانو"، على الصفحة التي يتابعها أكثر من ستة آلاف شخص: "الشمسُ مخضبة على طول المشرحةِ/ وهذا الصباحُ بلا ديكٍ". وفي قصيدة أخرى، تكتمل معانيها بالصورة المنشورة إلى جوار الكلمات، يقول الجبوري: "إلى الصباح الشبيه بالورقة/ تتدحرجُ من دمي كلمةٌ تشبهُ الشمسَ".

أما ثيمة "الومضات"، فقد استخدمها السوري مصطفى سعيد لكتابة قصائد لا تتجاوز بضع كلمات، وكأنما هي برقيات ضوئية خاطفة، على أنه قد يكون فيها من الذهنية أحياناً ما هو أكثر من روح الهايكو: "نسيانُكِ كذبةٌ/ مقسومة على ألفِ خيبة".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها