السبت 2017/06/17

آخر تحديث: 13:36 (بيروت)

"نيتفليكس" تقامر برواية لوسي مونتغمري

السبت 2017/06/17
"نيتفليكس" تقامر برواية لوسي مونتغمري
increase حجم الخط decrease
"سيكون هناك دائماً منعطف ما على الطريق"، واحدة من الجمل التي تختتم بها الكاتبة الكندية لوسي مود مونتغمري، روايتها الكلاسيكية الشهيرة "آن أوف غرين غايبلز"، لكن الانعطافات الكثيرة التي قدمتها شركة "نيتفليكس" العالمية في تطويرها لنسخة تلفزيونية معاصرة مقتبسة عن الرواية الشهر الماضي، جعلت التعرف على الأصل الروائي صعباً في بعض اللحظات، وتحديداً في ما يخص الشخصيات التي طاولتها تغييرات جوهرية في حمضها النووي وكأنها انسلخت عن نفسها لتقدم جملاً ومواعظ من حين إلى آخر حول النسوية وحقوق المرأة.


وصحيح أن الرواية تعتبر تجسيداً لكثير من القيم النسوية ضمنياً، إلا أنها في النص الأدبي لم تكن فجة ومباشرة، لا يمكن تخيل آن شيرلي، الطفلة اليتيمة ذات العشر سنوات والممتلئة بأفكار عن الرومانسية، تقول بأي حال من الأحوال "يمكن للفتيات القيام بما يقوم به الصبيان، وأكثر" بلغة خطابية عنيفة. ولا يمكن تخيل ماريلا غوثبرت، المرأة المسنة التي ترعاها بقسوة وصرامة، تنجذب للأفكار النسوية رغم كونها في الكتاب شخصية محافظة إلى أبعد الحدود، وإن كانت تتغير في نهاية الكتاب بسبب تفاعلها مع آن التي تمثل في الرواية العنصر الدخيل على مجتمع محافظ تقليدي، ليس بهدف تغييره كما يحصل في سلسلة "نيتفليكس" بل رغبة في عائلة وحب وحنان ومستقبل عطفاً على الحرمان الذي عاشته آن اليتيمة في الملجأ ومع العائلات التي آوتها كخادمة فقط.

والحال أن السلسلة تبدأ بإتقان مدهش، ففي الحلقات الأولى بدت التغييرات التي تقترحها السلسلة مميزة لكونها تقدم خلفيات تملأ الفراغ في ماضي الشخصيات، مثل آن نفسها التي لا نعرف كثيراً عن ماضيها في الكتاب أو في رواية الكاتب الأميركي بادج ويلسون الذي رصد حياة آن السابقة في روايته "Before Green Gables" العام 2008، سوى أنها يتيمة وتحب القراءة وتتخيل كثيراً لأن حياتها كانت بائسة في الملجأ، وماثيو، شقيق ماريلا الذي يبدو في الرواية مجرد شخص عطوف جداً من دون أي معلومات عن حياته التي جعلته يفضل الصمت ويخجل من الاختلاط مع الناس.


وهنا تميل السلسلة لتقديم رؤى شديدة السوداوية، ما يبدو جذاباً لأول وهلة قبل أن يصبح مقلقاً مع تحوله إلى نمط مشوه يكرر نفسه، حيث عذابات آن في الماضي التي تحولها إلى شخصية عصابية غريبة الأطوار (Freak) بدلاً من نسختها الحالمة اللطيفة في الرواية، وأيضاً لمحات من ماضي ماريلا وماثيو بعد موت أخ لهما في طفولتهما بشكل أثر على كامل حياتهما، وقصة حب ماثيو لجيني، وهي من الشخصيات الجديدة تماماً في السلسلة، أما أسوأ ما في الأمر فهو دفع ماثيو للتفكير بالانتحار بشكل مروع، لكون ذلك مخالفاً لروحه المسيحية أولاً كمؤمن سواء في الرواية أو السلسلة نفسها، ولطبيعته المسالمة والمحبة للحياة بقرب آن وماريلا من جهة أخرى.

ويجب القول أن تحويل أي رواية أو نص أدبي ناجح إلى عمل تلفزيوني أو سينمائي، مجازفة من دون شك، لكن ما قامت به "نيتفليكس" يبدو أقرب لمقامرة، عطفاً على وجود نسخ تلفزيونية وكارتونية وسينمائية متعددة لها، فضلاً عن شهرة الرواية التي باعت أكثر من 50 مليون نسخة منذ نشرها أول مرة العام 1908، ونجاحها الذي دفع مونتغمري لكتابة 8 أجزاء لاحقة لها، لتصبح السلسلة واحدة من أشهر ما قدمته كندا أدبياً وتصبح بطلتها آن شيرلي شخصية معروفة حول العالم، تحولت معهما جزيرة الأمير إدوارد الكندية، إلا معلم سياحي عالمي، يقصده القراء ليروا بأعينهم الأماكن التي عاشت فيها شخصياتهم الافتراضية المفضلة، سواء كانت أماكن حقيقية أصلاً أو أنشأتها الحكومة الكندية لهذا الغرض.

ويحفل المشروع الذي قدم سبع حلقات في موسمه الأول، بكادر نسائي كبير، ليس فقط من جانب فريق التمثيل والشخصيات، وهو أمر متشابه مع الرواية، بل أيضاً خلف الكواليس، حيث أشرف فريق غالبيته من النساء على صناعة وإنتاج السلسلة، بما في ذلك الكاتبة الحاصلة على جائزة "إيمي" مويرا والي بيكيت المشهورة بعملها في سلسلة "بريكنغ باد" والتي كتبت السيناريو الجديد، مدفوعة برغبتها لتقديم رؤية طازجة عن آن في العام 2017 لكونها شخصية مثالية لعكس أفكار عن كون الشخص غريباً وخارجياً في رحلة بحثه عن القبول والانتماء كما تقول في تصريحات صحافية، وكل ذلك بالطبع يبدو طبيعياً بالنظر لما يمر به الكوكب من أزمات وحروب أفرزت عدداً كبيرأً من اللاجئين الوافدين لثقافات جديدة مثلاً.

إلى ذلك، نجحت "نيتفليكس" رغم كل ذلك في إحياء الرواية، وقدمت فيها مستوى بصرياً رفيع المستوى يتماشى مع اعتماد الرواية بشكل كبير على جمال الطبيعة وأشكال الشخصيات، كما تم التصوير في جزيرة الأمير إدوارد الكندية نفسها التي تدور فيها الأحداث لمزيد من الجمالية والواقعية عبر اللقطات العامة، مع نقل مميز لأجواء القرن التاسع عشر التي تدور فيها الأحداث، في وقت قدم فيه الممثلون أداءات مميزة، وتحديداً الممثلة الانجليزية جيرالدين جايمس في شخصية ماريلا والممثلة الكندية صغيرة السن أمبيث ماكنلتي (15 عاماً) في دور آن، مع الإشارة أن العمل لم يكن لينجح بأي شكل من دون اختيار الممثلة المناسبة للدور الأيقوني، بالإضافة للمحافظة على النفس الساخر الكوميدي جداً الذي تمتلكه الشخصيات الأساسية، آن وماريلا تحديداً وهما الخاصية الوحيدة التي يحافظ عليها الاقتباس الجديد بإخلاص.

وبغض النظر عن المقارنة مع الأصل، تجعل الخصائص السابقة العمل ممتعاً ومشوقاً وأبعد ما يكون عن مجرد دراما تدور في القرن التاسع عشر، بسبب العمق الكبير الذي تحمله الشخصيات أصلاً التي تبدو نابضة بالحياة رغم مرور أكثر من مئة عام على ابتكارها، ومع ذلك فإن السرعة التي جرى فيها تدجين آن وتحويلها إلى شخصية أكثر التزاماً بالقوانين المجتمعية، في أقل من عام ضمن أحداث السلسلة يبدو غريباً لكونه استلزم حوالي 8 سنوات من عمر آن في الرواية كي تصبح شخصية عاقلة، ومع نهاية السلسلة بدا واضحاً ان الموسم الثاني المرتقب لن يكون له علاقة على الإطلاق بالقصة الأصلية مع وضع أقدار الشخصيات أمام "منعطف آخر على الطريق" بلغة مونتغمري أو في فضاء مواز بلغة "نيتفليكس".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها