الثلاثاء 2015/11/17

آخر تحديث: 19:21 (بيروت)

حروب الصور المتعاطفة

الثلاثاء 2015/11/17
حروب الصور المتعاطفة
قد يكون المتعاطفون مع ضحايا المجزرة الباريسية الأكثر عقلانية بين المنفعلين
increase حجم الخط decrease

"قام عادل إمام بتغيير صورته الشخصية". خبر كهذا في شريط أنباء "فايسبوك"، سيصبح بالغ الأهمية، إذا قام نجم الكوميديا العربية بتغطية صورته الشخصية بعلم لبنان، قائلا إن "لبنان اقرب من فرنسا". فالفنان، باهت المواقف السياسية، لفت نظره أثناء مراقبته لحملة الأعلام المتعاطفة في وسائل التواصل الاجتماعي "أن لبنان أقرب من فرنسا"، وبهذا فإن ضحايا تفجير برج البراجنة "أولى بالتضامن من أهالي العاصمة الفرنسية"، على مبدأ الأقربون أولى بالمعروف. أو على نغمةٍ أخرى ترنّ في العالم العربي والإسلامي، مفادها أنه عندما يموت المسلمون لا يكترث أحد، أما إذا مات الأوروبيون يتضامن العالم بأسره.


لحظة الهجمات المروّعة التي تعرّض لها الباريسيون مساء الحمعة، أعلنت في الغرب ساعة التضامن والشجب وربما تحميل المسؤولية للإسلام واللاجئين في أوروبا، لكنها أعلنت في العالم العربي والإسلامي ساعة الحروب الكلامية والصورية الافتراضية. فتضامن عادل إمام مع لبنان جاء بعد أربع أيام من السجال المتواصل على السوشال ميديا بين المتعاطفين والمغالين في التعاطف، وبين غير المكترثين والمغالين في عدم الاكتراث.


رصد الجماعات الأربع المتفاعلة مع الحدث على وسائل التواصل الاجتماعي يعطي مؤشراً مهماً عن ردود الفعل اللحظوية والانفعالية في العالم العربي حول الأحداث العالمية، ذلك على عكس الصحافة المكتوبة والإعلام المرئي اللذين يحيلان المواقف إلى لغة تحلل أكثر ما تنفعل. عدا عن أن المعبّر على وسائل التواصل الاجتماعي هو عرضة دوماً لسياقه التويتري أو الفايسبوكي، فلا يتشابه اللبناني الذي يغرّد متضامناً مع فرنسا وليس في رصيده أي قول في ضحايا بلده، مع ذاك الذي يتعاطف مع الضحايا في كل مكان.

كذلك الحال بالنسبة للسوريين الذين طلوا صفحاتهم في "فايسبوك" بألوان العلم الفرنسي، أو ابتدعوا شيئاً مشابهاً على الفوتوشوب. إلّا أن هذا التباين الذي يصحُّ أن يكون مدخلاً لفهم النزعات الفردية الجديدة نسبياً في العالم العربي، يتحول إلى نقطة خلاف نوعية بين هؤلاء الأفراد، رادّاً إياهم إلى مسالك جمعية مجدداً.


قد يكون المتعاطفون مع ضحايا المجزرة الباريسية الأكثر عقلانية بين المنفعلين، حيث تلعب خلفيتهم دوراً مهماً في تأويل تعاطفهم. فإضافة إلى من عبّر بموقف إنساني صاف، وجد بعض السوريين اللاجئين في أوروبا أنفسهم مكان المتهم وتحسسوا ضرورة أن يمايزوا أنفسهم عن "الإرهاب". لكن هناك من وجد ضالته في المغالاة التضامنية متلطّياً تحت غطاء طائفي وغامزاً بالإرهاب السُني، أو مُحاججاً بأن الموت النادر يحمل قيمةً حضاريةً أكثر من الموت المعتاد، أو متباكياً على عاصمة التنوير في العالم.


يفصل هؤلاء عمن لم يكترثوا وأظهروا تضامناً مضاداً. السؤال عن دافع التضامن العالمي هذا دون سواه؟ فبالنسبة للسوري الذي ألف فكرة الموت في بلده والبلدان المجاورة، لا يجد عبرة في التضامن مع الفرنسيين وهو فاقدٌ لحس التضامن الأولي مع ابناء جلدته ومدن وطنه المدمرة، كذلك الأمر بالنسبة للبنانيين مع توالي التفجيرات التي تستهدف المدنيين. عدم الاكتراث (أي عدم التفاعل افتراضياً) قد يكون منطقياً ومعتدلاً في حالتنا هذه. لكن يمينه هو الأكثر رداءةً بين الجماعات الأربع.

فأصحاب هذا الموقف، ومن ضمنهم النجم المصري، يعتبرون أن التضامن لا يجوز على الفرنسيين ويجب الرد عليه بتضامن معاكس يحتم علينا أن نحارب التطبيق الذي أطلقه فايسبوك لتغيير صور الحسابات الشخصية، ونفتعل صوراً على الفوتوشوب تحمل أعلام سوريا ولبنان وفلسطين… فدماؤنا أهم من دمائهم، ولأنهم لا يكترثون بدمائنا ويتسببون بقلتنا، علينا أن نعاملهم كغير المأسوف عليهم.


بهذا لا تجري مقاربة الهجمات على باريس إلّا من خلال مسلمي بورما وأطفال سوريا، ولا يتم التعاطف في المقلب الآخر إلّا من خلال التبرّئ من الإسلام السيء والمسلمين الإرهابيين. وعلى الرغم من أن أحداث العنف من العراق إلى فرنسا في السنوات الخمس الماضية متصلة في السبب والنتيجة، إلا أن هذا الاتصال ليس سطحياً، بل متشابك ومتعدد الخلفيات التاريخية والثقافية، مما يتطلب فهماً يحاكي درجة تعقيدها لا تسطيحاً ينظر إلى كل شيء من ثقبٍ صغير ويرى في الأحداث المحيطة احتمالاً متبادلاً.

سيزداد فشلاً يوماً بعد يوم ذلك الخطاب الذي يبني على المظلومية الإنسانية ليجعل من سوريا مدخلاً لفهم العالم، كذلك الذي يتخذ من تغيير الإسلام مدخلاً لحل أزماته.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها