الفيلم الذي أعده وأنتجه الصحافي الأميركي مارتن سميث، يقوم على ثنائيتين متناقضتين، الأولى هي خطاب النظام الرسمي عبر لقاءات مع مجموعة من الإعلاميين والمخرجين والجنود وزعماء المليشيات المحلية المقاتلة إلى جانب النظام. والثانية تتمثل في الصور والفيديوهات المأخوذة من مصادر المعارضة التي تصور الدمار الناجم عن قصف النظام في مناطق مدنية.
وبينما ينحو الجانب الأول لإلقاء اللوم على "المؤامرة الخارجية" وحصر المعارضة ككل بالإرهاب الداعشي، تبرز الثانية دون أي تعليق يرافق المأساة الإنسانية للحرب الأهلية بين النظام ومعارضيه مهما كان توصيفهم.
الدهشة هي كل ما يمكن رؤيته على وجه سميث منذ دخوله الأراضي السورية. بداية بالموسيقى الأميركية على الاذاعات المحلية و"بالهدوء الذي يطبع الحياة في العاصمة"، والحياة الليلية المرحة فيها. لكن أكبر ملامح المفاجأة تعتلي ردود أفعاله عندما يسمع وزير السياحة السوري وهو يصف مهرجانات السياحة في البلاد بالمذهلة، أو محافظ حمص وهو يوجه الصحافة المحلية لأخذ صور جميلة له خلال افتتاح مجمع سياحي جديد قرب المدينة، وهو ما استغله الفيلم للسخرية من حملة الصيف في سوريا التي أطلقها النظام آنذاك.
يظهر الفيلم أيضاً تعنت النظام لجهة زيارة مواقع معارضة، تدينه. ورغم هذه الحلقة المفقودة التي اشار اليها سميث، الا أنه أكمل الفيلم، من غير اضافات عبر آليات وسيطة. فعندما طلب الصحافي الأميركي زيارة مشفى ميداني في داريا، إثر قصف النظام لها، قوبل طلبه بالرفض، وأهدي تذكرتين لحضور الأوركسترا السورية كتعويض له، وهو ما أبرزه الفيلم بطريقة ذكية منوهاً بأسلوب النظام في التستر على جرائمه ومحاولته رسم صورة مشرقة له في الإعلام فقط.
يعكس سميث بحرفية كل ما تلتقطه الكاميرا من مآسٍ إلى جوانب عاطفية شخصية، تبعد الحرب السورية من كونها مجرد أرقام على الشاشات. فيلتقي مع مجموعة من مواطني الداخل السوري في حمص ودمشق وهم يرددون شعارات النظام التقليدية، قبل أن يتجاوز الفيلم تلك الكليشيهات نحو قصص حياتهم ومعاناتهمز فوراء الفخر بالجيش والدولة وغيرها، يقبع الألم بفقدان الحياة الطبيعية مع الظروف الاقتصادية، وفقد أفراد العائلة والأحباء تحت وطأة الموت والهجرة.
السبب الذي دعا النظام لاستقبال الصحافي الاميركي بكل تأكيد، هو رغبته في إيصال صوته للعالم، ويأتي ذلك بصراحة على لسان المخرج السوري المقرب من النظام، نجدة أنزور، الذي التقاه سميث بضع مرات في دمشق. وهذا السبب ليس جديداً على النظام الذي يتمكن من حين إلى آخر، من اختراق الإعلام العالمي عبر صحافيين وإعلاميين في وسائل إعلام كبرى يتم تجنيدهم بصورة مباشرة أو غير مباشرة لهذه الغاية.
صُوّر الفيلم في تموز الماضي، لكن كتابته بالشكل النهائي استغرقت بضعة أشهر، حيث يشير التعليق المرافق الذي كتبه سميث بنفسه إلى الوجود الروسي وزيارة الأسد الأخيرة إلى موسكو. وتبدو الغاية الأخيرة من الفيلم رسم نوع من الملامح الجديدة للدور الأميركي في المنطقة، مع تكرار طرح هذا السؤال على الناس في الشارع أو على ضيوف الفيلم (نجدة أنزور، العجلاني، محافظ حمص،..)، والتي تفاوتت بين الترحيب بدور أميركي أكبر أو بين إلقاء اللوم على الولايات المتحدة كطرف مباشر في الحرب إلى جانب المعارضة. ويطرح الفيلم الرؤية الأميركية للحل السياسي الذي يضمن الحفاظ على هيكلية الدولة السورية دون الحديث عن دور الأسد بالتحديد بعد.
لم يكن مسموحاً لسميث بالحديث سوى مع معارضة الداخل (تيار بناء الدولة) وكانت كل تحركاته موجهة سلفاً من قبل وزارة الإعلام والمكتب الإعلامي في رئاسة الجمهورية، وهو ما أشار له الفيلم بشكل صريح أكثر من مرة، حتى أن ذلك تصدر العنوان. فالفيلم يدور في سوريا التابعة للأسد والمحصورة بالشريط الضيق بين الساحل السوري ودمشق لا غير، حيث سيطرة النظام وتدفق النازحين وانتشار المظاهر المسلحة يغيران من شكل الحياة المألوف نحو نوع من الطبقية الجديدة بين الفقر المقدع والحرمان التام (نازحو الداخل) وبين الغنى الفاحش للطغمة المالية المحيطة بالنظام.
يقول سميث في نهاية الفيلم أن كل شي تغير في سوريا، ولن يرجع إلى ما كان عليه، وهو في فيلمه لا يقصد أن يدخل في مقارنات بين الوضع في سوريا قبل 2011 وبعده، بل يشير إلى نوع من الشرخ العميق في المجتمع السوري المقسم حتى ضمن الفئتين الكبيرتين نظرياً (النظام والمعارضة)، وهو ما يمكن تتبعه عبر السوشيال ميديا في نقاشات السوريين المختلفة حول الفيلم والتي اتسمت عموماً بالتشنج من كافة الانتماءات السياسية، والتي يمكن تتبعها عبر هاشتاغ "#frontline" الذي يبرز أيضاً الجدل الكبير الذي أحدثته الحلقة لدى الشارع الأميركي.
محاكمة الفيلم من وجهة نظر سورية محلية قد تكون ظالمة بحقه، فهو لا يفرض نفسه كشاهد على ما يجري ولا يدعي تقديم الحقيقة المطلقة، بل يصور جزءاً بسيطاً لكل ما يدور في سوريا من تقلبات وتناقضات سياسية وعسكرية، من وجهة نظر خارجية عبر رحلة إعلامية "سوريالية محفوفة بالمخاطر" داخل مناطق سيطرة النظام، وهو ما أشار اليه سميث في المقابلة التي أجرتها معه قناة "PBS" على هامش الترويج للفيلم، والتي أشار فيها أيضاً إلى الخطوط الحمراء التي تمنع السوريين في الداخل من الحديث بحرية أمام الكاميرا، خوفاً من ردّ فعل النظام.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها